الأخذ والرّد في شأن قضيّة فك ارتباط «جبهة النصرة» بالتنظيم الأم «القاعدة» تجاوز بأشواط ما يُتداوَل على صفحات التواصل الاجتماعي (وخاصّة موقع «تويتر»). القضية القديمة المتجددة عادت خلال الشهرين الأخيرين لتصبح ساحة «مداولات» مستمرّة انخرط فيها قياديّون «جهاديّون» محسوبون على الصف الأول، ومشايخ ومُنظّرون «شرعيون»، ومبعوثو أجهزة استخبارات إقليميّة. وتؤكّد معلومات متقاطعة حصلت عليها «الأخبار» أنّ المداولات الأخيرة ليست سوى امتداد لمداولات سبقتها مطلع العام الجاري («الأخبار»، العدد 2802) قبل أن يُجمَّد الملف، ليعاد فتحه أخيراً. خلاصة العرض الذي أوشك الجولاني على قبوله تنصّ على استنساخ «المشروع الإسلامي الجهادي في أزواد» مع الأخذ في الاعتبار الخصوصية السوريّة. اللافت وفقاً لمعلومات «الأخبار» أنّ الصراع الذي وجد الجولاني نفسه في خضمّه هو في واقع الأمر انعكاس لضغوطات استخباريّة متضاربة، حيث تقف السعوديّة وراء الضغوطات الرّامية إلى «فك الارتباط»، فيما يقف الأردن وراء الضغوطات الساعية إلى الحفاظ عليه. ويرجع الحرص السعودي على إمرار القرار إلى أنّ النموذج البديل المطروح على الجولاني يضمن هيمنة السعوديين على «النصرة» لاحقاً. فيما يسعى الأردن إلى الحفاظ على ثقل جناحه داخل «النصرة»، وهو الجناح المرتكز أساساً على القيادات السلفيّة التقليديّة المرتبطة بعمّان. وتفيد أحدث المعلومات بأنّ الجناح السلفي التقليدي قد ضاعف في اليومين الأخيرين جهوده لمنع الجولاني من «حفر قبره بيده». وتتمحور جهود الساعات الأخيرة حول تخويف زعيم «النصرة» من أنّ قراره سيقود إلى تصفيته لاحقاً بعد أن «يُنفّذ مطالب أعداء الجهاد ويفتح الباب أمام تقويض المشروع الشامي». وتجدر الإشارة إلى أنّ لزعيم «النصرة» سوابق في التراجع عن قراراته في اللحظات الأخيرة، ولعلّ أبرز الأمثلة في هذا السياق هو تراجعه عن «إعلان إمارة الشام» رغم أنّه كان على وشك إعلانها رسميّاً بعد أن «بشّر» بها حشداً كبيراً من محازبيه وأنصاره («الأخبار»، العدد 2342).
التداول العلني في «فك الارتباط» خرج إلى العلن في شباط 2015

«فك الارتباط» والجذور

إذا كان التداول العلني في هذا السياق قد خرج إلى العلن أوّل مرةّ في شباط من عام 2015 (راجع «الأخبار»، العدد 2517)، فالمؤكّد أنّ طرحَه في الدائرة الضيقة المحيطة بزعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني عائدٌ إلى مطلع آذار 2013. وقتَذاك؛ كانت مراسلات حامية الوطيس تدور بين زعيم تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق» (وفق المسمى المعتمد حينها) أبو بكر البغدادي، وبين «موفده» إلى سوريا أبو محمّد الجولاني. كان الأخير حائراً بين جملة خيارات في كيفيّة التصدي للبغدادي الذي أبلغه إثر اجتماع ناريّ ضمّهما إلى جانب «قيادات جهاديّة» أخرى منها أبو محمد العدناني بـ«وجوب إعلان الولاء لتنظيم الدولة، أو ترك الأمر لأهله». كان من بين الخيارات ما نُصح به الجولاني من السعي إلى تحالف سريع مع المجموعات السوريّة، وعلى رأسها «حركة أحرار الشام الإسلاميّة»، والاستقواء بها على البغدادي والتمسّك بـ«صبغة سورية للنصرة». لكنّه انحاز في آخر المطاف إلى الاستقواء بتنظيم «القاعدة» وقرّر الخروج بولائه لها إلى العلن. بقيّة القصّة معروفة: أصدر البغدادي أوامره بحل «النصرة» عبر كلمة مسجّلة في 9 نيسان، ردّ الجولاني بكلمة في اليوم التالي يتبرأ فيها من التبعية للبغدادي، ويُجاهر بـ«مبايعة تنظيم القاعدة».

صراع «التيارات»

منذ انكسارها أمام «داعش» في «الحرب الأهلية الجهادية» تمظهر بوضوح تيّاران داخل «النصرة»: أوّلهما «التيار الخراساني» الذي يضم مؤيدي الارتباط بـ«القاعدة» والحرصاء على دور محوري لـ«المهاجرين»، وثانيهما «التيار القُطري» المؤيّد لـ«فك الارتباط» و«سورنة النصرة» عبر إعطاء الصدارة لـ«الأنصار». منذ عام 2015 أسهمت جملة من المعطيات في تبادل التّيارين الغلبةَ داخل الجماعة المتطرّفة، مع ملاحظة أنّ كل الأحاديث السابقة عن «الفك» كانت تنتهي برجحان الكفّة لمصلحة «الخراسانيين». وثمة ارتباطات وطيدة بين المعطى الميداني في الشمال (وحلب على وجه الخصوص) وبين ما يدور من رسم ملامح صفقات سياسيّة وراء الأبواب المغلقة، وبين ملف «فك الارتباط». ومن المفيد التذكير بتشابه جملة من الظروف بين شباط الماضي والمرحلة الراهنة: كان شبح «طوق حلب» يحوّم فوق المجموعات المسلّحة، وقيادة «النصرة» تدرس خيار الانسحاب من الأحياء الشرقيّة للمدينة. كذلك كانت المحادثات الروسيّة الأميركيّة على أشدّها لتنتج لاحقاً «اتفاق وقف الأعمال القتالية». ومن الجدير بالانتباه أنّ «الهدنة» التي أبرمَت حينها قد أفرزت خفوتاً في الحديث عن «فك الارتباط»، ثمّ «توازناً» ميدانيّاً لمصلحة «النصرة» وحلفائها. وهو أمرٌ مشابه لما حصل إبّان طرح «فك الارتباط» في شباط 2015، حيث «نامت» القضيّة حينها مع تشكيل «جيش الفتح» الذي أفلح أواخر آذار في السيطرة على مدينة إدلب. وبمعنى أوضح، إنّ كل المرّات التي طُرح فيها موضوع «الفك» كانت بمثابة مقدمات لتصعيد ميداني تميل فيه الكفّة إلى مصلحة «النصرة» وحلفائها. لكنّ الجولاني أُبلغ هذه المرّة بأنّ «الأمر مخالف تماماً لما سبق، الحل الوسط لم يعد مقبولاً، ولا سبيل إلى قلب الموازين سوى إعلان الفك»، وفقاً لما يؤكّده مصدر «جهادي» محسوب على التيار «القُطري» داخل «النصرة».

موقف «القيادة»

منذ إعلان الارتباط، لم تُخفِ قيادة تنظيم «القاعدة» تحفّظها عن خروجه إلى العلن. كان زعيم التنظيم أيمن الظواهري قد قال في نص «الحُكم» الذي أصدره إثر خلاف البغدادي والجولاني إنّ «الشيخ أبو محمد الجولاني أخطأ بإعلانه رفض دولة العراق والشام الإسلامية وإظهار علاقته بالقاعدة دون أن يستأمرنا أو يستشيرنا، بل ودون إخبارنا». رغم ذلك، قرّر الظواهري إعلان «النصرة» فرعاً رسميّاً للتنظيم في بلاد الشام. وقد استمرّت قيادة «القاعدة» في التأكيد (سرّاً وعلناً) أن الخيار في أمر الارتباط متروكٌ لـ«النصرة». لكنّها عملت في الوقت نفسه على تقوية نفوذ «الخراسانيين» داخل الجبهة، عبر إيفاد المزيد من «القياديين الجهاديين» لمساعدة الجولاني في رسم مساراته وإدارة تنظيمه.




مشروع «أزواد»


يُمكّن عدّ «المشروع الإسلامي الجهادي في أزواد» نموذجاً لـ«الواقعيّة الجهاديّة». المشروع المذكور نظّر له «أمير قاعدة الجهاد في المغرب» أبو مصعب عبد الودود (عبد المالك دروكدال) عبر رسالة إلى «جماعة أنصار الدين في أزواد» عام 2012، بعد إعلان استقلال الإقليم عن جمهورية مالي. المذكرة وضعت أسساً وقواعد لكيفية تعامل «الحلفاء الجهاديين» في ما بينهم، وبطريقة تُغلّب مصلحة «التحالف» على مصلحة تنظيمه. كذلك نظّرت لطريقة تعامل «الجهاديين» مع حلفائهم من غير الجهاديين (حركة تحرير أزواد)، كما مع أبناء إقليم أزواد. ونصح عبد الودود فيها بـضرورة الحفاظ على توافق مع «الحركة» لأنّها كانت «الطرف الأقوى» في المعادلة السياسية، رغم أن قطاعاً كبيراً من العناصر «الجهادية» كان ينظر إلى «الحركة» بوصفها حركة «علمانية». وانطلق عبد الودود في وثيقته تلك من التسليم بحقيقة أنّ «القوى الكبرى المهيمنة على الواقع الدولي رغم ضعفها وتراجعها نتيجة الإنهاك العسكري والأزمة المالية؛ إلا أنها ما زالت تملك الكثير من الأوراق التي تؤهلها لمنع قيام دولة إسلامية في أزواد يحكمها جهاديون أو إسلاميون».