كان يجب أن يمر بعض الوقت حتى يصير هذا الحوار مسموعاً. ليست المسألة قطعاً من باب تبرير عميل أو تسويغ عمالة. ولا هي محاولة مرفوضة بالمطلق، لإخضاع مبدأ إسرائيل ــ العدو لأي نسبية أو تناسب. فأي استدراج من هذا النوع نرفض إعطاءه حق السؤال حتى، فكيف بالمزايدة... ولا هي طبعاً موافقة على هرطقة مذكرة توقيف بحق كاتب زميل، أو سكوتاً عن عسف اعتقال بجناية رأي!المسألة تقع في مكان آخر. هي في حق الحوار حول موضوعات ثلاثة: أولاً، الحق في الحياة البشرية، أي حياة كانت، على أساس كرامتها وقدسيتها. ثانياً، الحق في المحاكمة العادلة، أياً كانت الشبهة أو الظن أو التهمة. وثالثاً، الحق في السؤال عن عمالة فايز كرم.
في المسألة الأولى، لا يمكن لأي إنسان على هذه الأرض أن يقفل الحوار في قضية الحق في الحياة. أي الحق في الإيمان برفض عقوبة الإعدام. وبالتالي رفض القتل، حتى القضائي منه. وذلك لأكثر من سبب. أهمها، انطلاقاً من مبدأ إنساني عام، يؤمن عميقاً بأن للحياة البشرية قدسية مطلقة لا شيء ينزعها إطلاقاً. لا حكم ولا قضاء ولا حتى عدالة. هي مسألة فكرية فلسفية، لا يمكن لأي شخص على هذه الأرض، أياً كان، أن يحسمها. في نقاش شهير حول الموضوع، سئل رافض لعقوبة الموت، ماذا لو كانت ضحية المجرم ابنتك؟ فأجاب: أبادر بلا تردد إلى قتله بيدي، ثم أسلم نفسي للمحاكمة. فقيل له: وكيف تبيح لنفسك ما ترفضه للقانون؟ فأجاب: لأنني فرد مخطئ. أما القضاء فهو المجتمع. والمجتمع في تحديده يجب أن يكون أفضل من الفرد، ويجب ألا يخطئ.
ثم إن القضاء، أي قضاء كان، هو في النهاية بشر. والبشر يخطئون. والقضاة بالتالي معرضون للخطأ، إما بدافع نقص في الكفاءة، وإما بدافع ثغرة في النزاهة. وهذا ما انطلقت منه فلسفة القضاء في أي نظام ديمقراطي. وهو ما استقر عليه القضاء في لبنان نفسه. وإلا، فلماذا فرضت آليات المقاضاة عندنا أمرين اثنين: أولاً ضرورة وجود أكثر من درجة واحدة لهيئات القضاء. وثانياً وجود آلية للتحقق من حسن عمل القضاة، عبر هيئة التفتيش القضائي؟! فدرجات المقاضاة المتعددة وسيلة لتلافي أخطاء الكفاءة في التحقيق والتقدير والحكم. والتفتيش القضائي أداة لمكافحة العيوب الناتجة من نزاهة القضاة في ممارستهم وأعمالهم.
لكل ذلك، سيظل هناك دوماً من يقف ضد عقوبة الإعدام، وضد قانونية القتل القضائي، لا بل ضد إسقاط قدسية الحياة البشرية، إلا في حالة الدفاع المشروع والمباشر عن النفس... فكيف إذا كان المطروح مسألة القتل، خارج نطاق أي قضاء، ومن دون أي صلاحية قضائية أو قانونية؟!
أما المسألة الثانية التي تطرحها إشكالية فايز كرم، فهي تلك المسماة محكمة عسكرية. فلنختصر حيثياتها بسؤال واحد: هل سمع أيّ منا باسم نور مرعب والقضية 2769؟ هي نموذج صارخ حول إشكالية القضاء العسكري في لبنان. شاب مثقف ناشط، وقع شجار عفوي بسيط بينه وبين جار له عسكري، فذهب إلى السجن بموجب حكم صادر من المحكمة العسكرية. بعد تلك الصدمة، أنهى نور حياته الضاجّة منتحراً، بعدما ناضل سنوات من أجل إلغاء الهيئة الجائرة التي حكمت عليه. هو نموذج للقول الجازم بأن المحاكم الاستثنائية ليست قضاءً. هذا في مجتمعات تعرف معنى العدالة وحقوق الإنسان، فكيف بها في بلد، يدرك الجميع مدى فساد الدولة فيه، بكل إداراتها وأسلاكها، خصوصاً أصحاب الحصانات منهم.
يدرك المعنيون، والزملاء منهم، معنى اختزال المحاكمات ومنع حقوق الدفاع في الاختلاء وابتسار الأحكام إلى ما يشبه ملء الخانات الجاهزة في استمارات مطبوعة، من محاكمات القوميين في الستينيات إلى محاكمات وصاية التسعينيات. كلنا يدرك أن منسوب القضاء في القضاء العسكري في لبنان، مطابق لمنسوب مفهوم الكرسي في الكرسي الكهربائي!
تبقى المسألة المتعلقة بقضية فايز كرم بالذات. وهنا أيضاً، ثمة كلام كثير يمكن أن يحكى. وثمة أسئلة وتساؤلات وألغاز وأسرار. لكن يكفي قياس واحد: ماذا لو قيل لنا إن على من يقتنع بأن فايز كرم عميل إسرائيلي، أن يقتنع أيضاً بنفس قوة الدليل والسند، بأن محمد زهير الصدّيق هو شاهد صادق صدوق، وإن متّهمي المحكمة الدولية هم قتلة رفيق الحريري؟ وذلك لمجرد أن جهة واحدة أنجزت التحقيقات الثلاثة في القضايا الثلاث، علماً بأن الإحصائيات القضائية اللبنانية تؤكد أن ما يكتب في تلك التحقيقات الأولية البوليسية، يخرج هو نفسه طبق الأصل، أحكاماً قضائية عسكرية، في أكثر من 95 في المئة من محاكمات ما يسمى عندنا قضاءً عسكرياً. نحن من يعرف أن الصدّيق مزوّر، وأن ملف لايدسندام مؤامرة، يحق لنا أن نطرح مجرد سؤال...
باختصار أشد، إذا كان فايز كرم عميلاً إسرائيلياً، يجب أن يحاكم في محكمة عادلة. وبعد أن يعطى حقوق الدفاع المقدسة كاملة وغير منقوصة حرفاً أو ثانية، يجب أن يحكم بالسجن المؤبد، لا أقل يوماً أو ساعة، وبحكم غير قابل لأي إنقاص أو عفو، وأن يمضي كل ما تبقى من عمره، مكفّراً عن جرمه وجريمته في زنزانة. وأن لا تنتزع منه حياته، لا بالقضاء، ولا خارجه... هو رأي آخر؟ فهل يستحق المحاكمة أو القتل السياسي، كما رأي الزميل حسن؟!