أواخر حزيران الفائت، أشار المدعي العام الاسئتنافي في الجنوب القاضي رهيف رمضان بفك الأختام وإزالة الشمع الأحمر عن مرملة وغربال في العيشية. القاضي نفسه، بصفته المدعي العام البيئي في الجنوب، كان قد أمر بإقفالها في نيسان الفائت، لأنها "تقوم بغسل الرمول في مياه الليطاني، ما يؤدّي الى تعكير مياهه وتعطيل قدرة مضخّات محطّة الطيبة على ضخ المياه الى نحو 54 بلدة في قضاءي مرجعيون وبنت جبيل". مشغّل المرملة والغربال، علي عمار، حصل على مهلة إدارية جديدة لمدة ثلاثة أشهر لتشغيلها، بعدما "لم تثبت مسؤوليته عن تعكير النهر". تبرئته من التعكير، جددت إذن عمله بـ"جرف وحفر ونقل الناتج"، بحسب نص قرار المهلة الجديدة. وبالنظر إلى موقع العمل في العيشية، فإن الإذن سيشرع لأسنان جرافاته وشاحناته مجدداً أن تنهش التلال وأحراج الصنوبر. وهي جرائم لم تُلحظ بالتهمة التي أوقف بسببها قبل أربعة أشهر. وبحسب المراجع والأختام المدونة على الأوراق، مر الإذن في وزارة الداخلية وحوّل إلى محافظة الجنوب لتبليغ القوى الأمنية.
«آخ على ما يحصل. في محلات ما فيّي اشرحلك» يقول شربل بتحسر

في القانون، يحصر إعطاء تراخيص عمل المرامل والكسارات والمقالع بالمجلس الوطني للمقالع والكسارات والمرامل في وزارة البيئة، بموجب المرسوم رقم 8803/2002 (المجلس يرأسه وزير البيئة ويضم وزارات الداخلية والبلديات والدفاع الوطني والأشغال العامة والنقل والصحة والمالية والبيئة والزراعة). يقدم صاحب طلب الترخيص طلبه إلى المحافظ بثلاث نسخ تحال إلى المجلس للنظر فيه بغضون 3 أشهر وتبلغ صورة عن طلب الترخيص إلى وزارة الداخلية للبلديات التي تحيلها إلى البلديات المختصة، حيث تقع الكسارة أو المرملة أو المقلع. ويحظر المرسوم إعطاء ترخيص استثمار محافر الرمول ومقالع الصخور في المواقع الطبيعية ومجاري الأنهر والمحميات. وفي حال الموافقة، يتسلم صاحب الطلب رخصته من وزارة البيئة. هذا على الورق، ماذا في الواقع؟
يتجه عدد من طالبي التراخيص إلى وزارة الداخلية مباشرة لتقديم ملفاتهم. يستندون إلى أن الوزارة تمنح تراخيص بنقل الناتج، علماً بأن تراخيص المجلس تشتمل على نقل الناتج، ما يجعل من تراخيص الداخلية "تحصيل حاصل". لكن القصة ليست قصة ترخيص "بالزائد أو بالناقص". يتحدثون عن "نوع من الاحتكار والسيطرة تمارسهما مجموعة في الوزارة تتحكم بمنح وحجب التراخيص". الأمثلة لديهم كثيرة. عدد من التراخيص الصادرة عن المجلس "محتجزة في الداخلية". أشار أحد أصحاب هذه التراخيص لـ"الأخبار" إلى أنه استحصل على رخصة لتشغيل مرملة في منطقة العيشية من المجلس خلال العام الماضي، واضعاً كفالة مصرفية بقيمة 300 مليون ليرة. وعندما راجع وزارة البيئة لتسلمها، حوّل إلى الداخلية "بعدما وصلت إليها لكونها ساعي بريد ترسل نسخة منها لأخذ العلم إلى المحافظة والقوى الأمنية". لكن الرخصة لا تزال منذ ذلك الحين في الداخلية. لماذا؟ "لا أعلم" يقول. إلا أنه يتحدث عن زميلين له يعانيان من المشكلة نفسها. يتجنب تسمية الأشياء بأسمائها مثلما يفضل عدم ذكر اسمه. يلمح إلى وجود مجموعة "تفرض خوة على كل رخصة". من هم؟ "بيخربولنا بيتنا وبيقطعولنا أرزاقنا وبيلغونّا رخصتنا بعدما قمنا برهن أملاكنا للمصرف مقابل الكفالات اللازمة".
في المقابل، هناك جرافات وآليات لا تهدأ في تلك المناطق نفسها. يشير مسؤول قضائي إلى أن جميعها لا تعمل استناداً إلى مضمون التراخيص الصادرة عن المجلس الوطني. هذا عدا عن تجاوز حدود الترخيص إلى أعمال أخرى. على سبيل المثال، مرملة الدير في كفرحونة التابعة للرهبنة الباسيلية المخلصية (طلب الترخيص مقدم باسم الياس نجيم والمطران بشارة سعد) تعمل بمهلة إدارية لمدة 3 أشهر صادرة في 12 كانون الأول الماضي، لكنها لا تزال تعمل، إطارها استصلاح وأعمال حفر. في خلة خازم الحرجية، أعطيت أخيراً موافقة على مهلة إدارية لمدة شهر لمحمد علي غندور باسم شركة الفردوس لسحب المخزون الناتج من استصلاح العقار رقم 1 وإيداعه في العقار رقم 10 . تراخيص أخرى تبدأ بموافقة صادرة عن وزارة الزراعة باستصلاح أراض وقطع عدد محدود من الأشجار، مرفقة بموافقة وزارة البيئة على شق طرقات داخلية ونقل رمول. أما على الأرض في العيشية والريحان وكفرحونة وعرمتى، فنتيجة تلك التراخيص الفضفاضة مجازر مستمرة في الأحراج وقطع لآلاف الأشجار ونهش جبال ونقل أتربة.
الطاسة ضايعة والطبيعة تنهش. من المسؤول ومن يراقب؟ بحسب المرسوم الاشتراعي 116، للمحافظ دور رئيسي في استقبال الطلبات ودراستها وبتّها. لكن قرار وزير الداخلية السابق مروان شربل في تموز 2013، نقل إلى الداخلية قرار نقل ستوكات البحص والرمل بسبب "غياب أية آلية واضحة لتنظيم هذا الموضوع وعدم تحديد اطار قانوني يرعى نقل الستوكات الناتجة من اعمال حفر واستصلاح". وقرر أن "تحيل المحافظة الطلبات مرفقة بتقرير القوى الأمنية وتقرير المكتب الفني إلى الداخلية التي تدرسها وتعيدها إلى المحافظة مع الموافقة أو الرفض". إلا أن شربل لفت في حديث إلى "الأخبار" أن "صلاحية منح التراخيص محصورة بالبيئة فقط. لا صلاحية للداخلية او المحافظ. ترسل إلينا فقط نسخة عن الرخصة من وزارة البيئة لنراقب سير تطبيقها. وعندما يكون هناك مخالفة، تطلب البيئة من الداخلية مؤازرة أمنية لضبط المخالفة. أما كوزير داخلية، يحق له إعطاء رخصة فقط عندما يكون طلب استصلاح أرض مستنداً إلى ترخيص بناء". وما دامت الداخلية ساعي بريد، ماذا يحصل الآن؟ "آخ على ما يحصل. في محلات ما فيّي اشرحلك" يقول شربل بتحسر. ذكّر باقتراح وزير البيئة السابق ناظم الخوري إلى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي قبيل استقالتها حول تنظيم القطاع. "حينها اختلف الوزراء على التوزيع المناطقي للمرامل والكسارات والمقالع". في النتيجة، يشير إلى أن على مراقبي البيئة ومأموري الأحراج مراقبة العمل وإبلاغ القوى الأمنية بالمخالفات، التي بدورها لا يمكن أن تتحرك إلا بإشارة من النيابة العامة.