في صباح اليوم الثالث من الذكرى العاشرة لـ«حرب تموز» الإسرائيلية على اللبنانيين، استجاب قاضي التحقيق في بيروت فريد عجيب لدعوى عميلٍ إسرائيلي. تحرّك عجيب فصدّر قراره الظنّي الغريب بحق الزميل حسن علّيق، مسطّراً مذكرة توقيف غيابية بحقه، بناءً على دعوى العميل المحكوم فايز كرم، بجرائم القدح والذم والتحريض على القتل. رفيق درب الجنرال ميشال عون الذي شبّهه الأخير في لحظة تهيّب بـ«يوضاس»، يُريد أن يحتكم إلى القضاء. القضاء نفسه الذي رضخ لضغوط السياسة يوم اصطفّ نواب من التيار الوطني الحر في المقعد الأول للمحكمة العسكرية الدائمة في بيروت، طوال جلسات محاكمته، تضامناً مع عميل إسرائيلي اعترف بعمالته "ردّاً لجميل" ضابط إسرائيلي. وعليه، سُجن «يوضاس» سنتين فقط. حكم القضاء بسجن الضابط الذي دنّس بزته العسكرية سنتين بعد إدانته بالتواصل مع العدو الإسرائيلي وقبض أموالاً من استخباراته، فيما يسجن سارق دراجة نارية خمس سنوات. يُحكم العميل سنتين، بالضبط، كما لو أنه قد عُثر في جيبه على قطعة من حشيشة الكيف. هكذا، قرر المحكوم أن ينتفض لـ «كرامته»، مُحتكماً لـ… القضاء. وأيّ قضاء؟ شدّ ظهره بالقضاء الذي لم يخذله سابقاً، مثلما فعلت قبله محكمة التمييز العسكرية وتفعل دائماً مع العملاء الذين لا يتجاوز سقف حكم أسوأهم خمس سنوات. لا يأبه هؤلاء القضاة لاعتبار أن «الحكم الخفيف» يشجّع الناس على التعامل مع العدو الإسرائيلي. بل ربما كان اعتبارهم مختلفاً، في بلد باتت فيه العمالة وجهة نظر.
حكم القضاء بسجن ضابط تعامل مع إسرائيل سنتين، فيما يطلب السجن 15 عاماً لمن كتب عن العميل المحكوم

إذاً، لم يقبل كرم على نفسه وصف الحقير التافه والحثالة، إنما رضي وهو بكامل قواه العقلية بيع وطنه والتعامل مع قتلة أبناء بلده. لقد ورد في متن القرار الظني لعجيب أنّ المدعي عرض في شكواه أنّه بتاريخ ٢٢ و ٢٤ كانون الأول من عام ٢٠١٤ نشر عليق على صفحته على فايسبوك منشورين أهانه فيهما، مستعملاً لوصفه أنبى (من نابية) الألفاظ، وناعتاً إياه بالحقير التافه والحثالة. كما ورد في متن القرار الظني أنّ المدعى عليه، أي عليق، تخلّف عن حضور جلسات التحقيق الاستنطاقي بالرغم من إبلاغه أصولاً. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن عليق يؤكد أنه لم يتبلّغ وجود دعوى بحقه، ولا بأي جلسة من جلسات التحقيق. وإذا كانت مخافر الدرك أو شرطة بيروت قد اعتبرته مجهول الإقامة، فإنه معلوم مكان العمل. وبالتالي، كان بمقدور القاضي الإصرار على إبلاغه بوجوب حضور جلسات الاستجواب، بدل اللجوء إلى إبلاغه لصقاً في قصر العدل، إن كانت هذه هي الطريقة المستخدمة في التبليغ. ومن المستغرب قبول قاضي التحقيق النظر في الدعوى، وعدم إعلان أنه غير مختص للنظر فيها، لكون "جرائم القول" من اختصاص محكمة المطبوعات حصراً. لكن القاضي أصدر قراره الظني، متهماً عليق بالتحريض على القتل، وظاناً به بجنحتي تحقير كرم والنيل من كرامته. وأصدر عجيب مذكرة توقيف غيابية بحق عليق، طالباً محاكمته أمام محكمة الجنايات.
وبصدور قرار عجيب أمس، تُحال القضية على الهيئة الاتهامية في بيروت، وسيكون على الضابطة العدلية تنفيذ مذكرة التوقيف. وإذا ثبّتت الهيئة الاتهامية القرار، يُحال الملف تلقائياً على محكمة الجنايات في بيروت، لمحاكمة عليق بموجب مواد قانونية تصل عقوبتها القصوى إلى السجن 15 عاماً (أي أكثر من 5 أضعاف ما قضاه كرم في السجن).
ربما غاب عن بال القاضي أن الضابط المتقاعد في الجيش اللبناني فايز وجيه كرم، اعترف بأنّه تعرّف في خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للبنان عام 1982 على الضابط الإسرائيلي موسى، في أثناء تعرّضه لحادثة على حاجز تابع للقوات الإسرائيلية في منطقة عاريا، ثم التقاه بعدها في أماكن مختلفة. ومنذ ذلك الحين بُذرت بذرة العمالة. لقد ورد في متن حكم كرم أنه لوحق قضائياً عام 1992 بجرم إعداد عمليات للإخلال بأمن الدولة، وصدرت بحقه مذكرة توقيف غيابية، فالتجأ إلى بلدة بكاسين في قضاء جزين لدى صديق له يدعى خوسيه عفيف، وكانت المنطقة آنذاك لا تزال تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، وسافر إلى قبرص من الشريط الحدودي عبر إسرائيل بمساعدة العميل الإسرائيلي الفار الياس كرم، والضابط الإسرائيلي موسى. ومن قبرص غادر إلى فرنسا وأقام فيها منذ ذلك التاريخ حتى عام 2005 وأدار هناك عدداً من المصابغ. أما في خلال التحقيقات مع كرم، فثبت من اعترافاته أنه استعمل خطوطاً هاتفية دولية، تبيّن نتيجة للتحاليل الفنية أنّ هذه الخطوط تواصلت مع أرقام أمنية مشبوهة مستعملة من الاستخبارات الإسرائيلية وعملائها.
لقد ذكر كرم في إفادته أنّه كان يلتقي في باريس رافي، الذي عمل في الاستخبارات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة، ويعرف لبنان جيداً. وأفاد بأنّ رافي نقده مبلغ سبعة آلاف يورو بهدف تجنيده للعمل لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية واستمر بالتواصل معه مرة كل ثلاثة أشهر. وبناءً على سؤال المحققين، أجاب كرم في التحقيق الأولي بأنّ الهدف من لقائه أحد عناصر الاستخبارات الإسرائيلية في باريس هو تجنيده للعمل لمصلحتهم ولم يخبر أحداً بذلك. كذلك تبيّن من إفادته أنه بعد كشف شبكات التعامل مع العدو الإسرائيلي قرر وقف التواصل مع الاستخبارات الإسرائيلية وأتلف الخط الأمني المزود به بتكسيره الشريحة ورميها في الحمام وأرسل الجهاز المستعمل بواسطة أحد أفراد عائلته إلى فرنسا لإخفاء تواصله مع العدو.
لقد ثبت أيضاً في متن الحكم أن فايز كرم كان على بيّنة من أمره مع مَن كان يتواصل وأدلى في إفادته الأولية بأن الهدف من تواصله مع استخبارات العدو أسباب عديدة ذكرها في الصفحتين 43 و44 من محضر التحقيق الأولي، ومن بينها ردّ الجميل للضابط الإسرائيلي موسى، كذلك فإن المتهم أدلى بأن التداول اقتصر على الشؤون السياسية فقط.
لقد كتب كرم من سجنه أربع رسائل إلى أفراد عائلته، اثنتان موجهتان إلى زوجته يطلب منها السماح والمعذرة على فعلته ويعترف بخطئه، والثالثة والرابعة موجهتان إلى ابنه وابنته، يعترف فيهما بأنه أخطأ وتكلم مع شخص من الاستخبارات الإسرائيلية بدافع الحشرية وأنه سقط في أثناء اللقاء وقبل منه مبلغ سبعة آلاف يورو، واستمر بالتواصل معه عبر الهاتف.