عباس كيارستمي: سينما مطرّزة بالبراءة

عباس كيارستمي ... سينما مطرّزة بالبراءة

  • 0
  • ض
  • ض

تاركاً ندبة حزن حارقة على وجه العالم، رحل عباس كيارستمي (1940 ـــ 2016). التحق بروسلليني، وساتياجيت راي، وكوروساوا في العالم الآخر، هو الذي ارتبط بهم بشكل أو بآخر خلال مساره المتفرّد.
سرطان الجهاز الهضمي لم يمنحه مزيداً من الوقت، لإنجاز ما كان بصدده من سينما وشعر وفوتوغرافيا وتجريب مفتوح على آفاق لا نهائية. في باريس، كُتبَت نهاية المعلّم الإيراني، الذي لا تحتاج سيرته إلى سرد معلومات، بقدر التحليل والإحالة. حتى هذا يبدو عصيّاً أمام مسيرة غير قابلة للخضوع لمنهج أو قياس. منذ الثواني الأولى لصبيّ يحمل الخبز في الروائي القصير «خبز وزقاق» (1970، 12 د.) عن سيناريو كتبه شقيقه الأصغر تاجي كيارستمي، وانتهاءً بشريطه الياباني «مثل عاشق» (2012 ـــــــ 109 د.)، أثبت عباس أنّه كوكب سينمائي مستقلّ بذاته. لا يعيش في جلباب أحد، ولا ينتعل أحذية الآخرين. نعم، اعترف ببعض التأثّر بروبير بروسون، وشابه واقعية روسلليني ودي سيكا الإيطالية، إلا أنّ التقارب جاء نتيجة الاشتباك ما بين الواقع الإيراني المعقّد وحال إيطاليا ما بعد الحرب العالمية الثانية.

كوروساوا انبهر بمنجزه، شاكراً الرب على خلق خليفة للهندي ساتياجيت راي. شهادة أستاذ يبارك غوص كيارستمي في تقاليد شعبه وقصصه الأصيلة. فيرنر هيرتزوغ صرخ بأنّنا نعيش في عصر كيارستمي، حتى لو لم ندرك ذلك. هكذا، ودّعنا «عم عباس» قبل أن يباشر مشروعه الصيني «السير مع الريح» (عنوان أحد دواوينه الشعرية أيضاً، صدر عام 2002 عن «مطبوعات جامعة هارفارد»). شريط عن «الحب المستحيل»، تقوده عاملة مسؤولة عن نظافة آلاف الغرف في بناء ضخم. البطولة لممثّلة إيرانية، إلى جانب "كاست" صيني كبير. كذلك، كان عازماً على إخراج فيلم في بوليا الإيطالية بعنوان «عمليّة أفقية»، تولّى كتابته مع جان كلود كاريير. السيناريست الفرنسي الشهير قال عنه يوماً: «سينما كيارستمي مطرّزة بالبراءة. إنّها مباشرة وبسيطة، لا ترفع أيّ شعار، فلا مجال فيها للاستطرادات ولا لرفّات الجفن. الفيلم يعطي الانطباع بأنّه يخلق نفسه تلقائياً دون أي أسلوب مقرّر سلفاً». هنا، يحصل الإبداع بالحذف لا بالإضافة، كما عند بروسون. في بلاد فيلليني الذي سحر كيارستمي الشاب بتحفته «الحياة الحلوة» (1960)، صوّر «نسخة طبق الأصل» (2010 ــــــ 106 د.) مع جولييت بينوش ووليم شايمل. دراما تنطلق من أسئلة الزواج والعلاقات العاطفية، لتلفح الوجود والفلسفة والشجرة العارية. تخاتل الواقع والخيال، وتنسج على الفرد ونسخته للبحث في المآل والمستقبل. غير أنّ كيارستمي أنهى قبل رحيله مشروعاً تجريبياً أخيراً بعنوان «24 كادراً»، ينتظر الإصدار بعد عرض جزء منه أثناء تكريم مارتن سكورسيزي في «مهرجان لوميير السينمائي» في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. خلال أربع دقائق ونصف الدقيقة، سنشاهد 24 لوحة تمّ تصويرها على مدى أكثر من ثلاث سنوات.
للصمت فعل حاسم في أفلامه. كيارستمي الصغير المولود في طهران لأسرة متوسطة، يتذكّر الصمت في البيت جيداً. يستحضر طبيعته الانطوائية في المدرسة، مما سيظهر لاحقاً في انتقاده لنظام التعليم التلقيني القمعي، كما في وثائقي «الفرض المنزلي» (1989 ـــــ 86 د.). الأب رسّام ومصمّم ديكور، فكان التشكيل واللون سلاح الطفل في التعامل مع محيطه. سيرة الرسم والغرافيك، وتصميم البوسترات وأغلفة قصص الأطفال وافتتاحيات الأفلام معروفة للجميع. عمله كشرطي مرور للإنفاق على نفسه أثناء الدراسة، قرّبه من الشارع والشخصيات الواقعية، لكنّه أخّر تخرّجه من قسم الفنون الجميلة في جامعة طهران. هكذا مرّ عقد الستينيات، وصولاً إلى مساهمته في تأسيس قسم السينما في "مركز التنمية الثقافية للأطفال والشباب" (كانون)، الذي لعب دوراً كبيراً في إطلاق السينما الإيرانية الجديدة. الموجة بدأت بفيلم «البقرة» لداريوش مهرجوي، الذي نال جائزة النقاد الكبرى في «مهرجان البندقية السينمائي" عام 1971، إثر منع عرضه في إيران. كرّت السبحة مع أفلام سهراب شهيد ثالث، وبهرام بيزائي، وأمير نادري، وبارفيز كيميافي، وبهمن فرمنارا، إضافةً إلى كيارستمي نفسه. اشتركت تلك الأفلام باتباعها أساليب مغايرة عن السينما التجارية السائدة، وشعرية الصورة والحوار، والمجاز في تناول القضايا الكبيرة، والتقشف والبساطة، والمزج بين الواقع والخيال، والتماهي بين الروائي والوثائقي. كل ذلك ألهم كيارستمي في تعامله مع مواقع التصوير الحقيقية، والضوء الطبيعي، والممثّلين غير المحترفين خصوصاً الأطفال، والسيناريو غير الكامل، والارتجال في اللوكايشن، لتحقيق أشرطة مينيمالية، بسيطة الحبكة، عميقة المعنى. نهل أيضاً من الشعر الفارسي القديم ووظّفه في العناوين والحوارات. أسماء مثل حافظ الشيرازي، وفروغ فرخزاد، وسهراب سيبهري وعمر الخيّام رافقته دائماً.


أنهى قبل رحيله
مشروعاً تجريبياً أخيراً بعنوان
«24 كادراً»

كثيراً ما منح كيارستمي أدوار البطولة للأطفال. أراد رؤية الدنيا من عيونهم. أحبّ فطرة الطفل، وتلقائيته في الأداء. الصبي الذي يُطرَد من المدرسة في «وقت الراحة» (1972ــــــ 15 د.). المراهق الفقير الذي يقع في غرام فتاة ميسورة الحال تكبره سنّاً في «التجربة» (1973، 60 د.). «قاسم» الذي يفعل المستحيل لحضور مباراة المنتخب الوطني، في باكورة أفلامه الطويلة «المسافر» (1974 ـــــ 71 د.). «أحمد» الذي يسعى لإعادة دفتر الوظائف إلى زميله «محمد» منعاً لطرد الأخير من المدرسة في «أين منزل الصديق؟» (1987 ــــ 83 د.). الروائي الطويل الثالث نقل كيارستمي إلى الأوساط الدولية من خلال برونزية «مهرجان لوكارنو»، لتتبعها عشرات الجوائز والتكريمات التي توّجت بسعفة «كان» عن «طعم الكرز» (1997 ــــ 95 د.)، مناصفةً مع الياباني الراحل شوهي إيمامورا عن «ثعبان البحر». رأى عباس في الصغار مستقبل إيران الأفضل. آمن بقدراتهم، وأوكل إليهم مهمّات كبيرة. هم التغيير الفكري الاجتماعي المأمول، القادر على التخلّص من التقاليد السخيفة، والحفاظ على الجميل منها. «أين منزل الصديق؟» افتتح «ثلاثية كوكر»، نسبةً إلى القرية التي تدور فيها الأحداث. تلاه «وتستمرّ الحياة» (1992 ـــ 95 د.) أو «الحياة ولا شيء آخر»، ثمّ «عبر أشجار الزيتون» (1994 ـــ 103 د.). في الجزء الثاني، نرحل مع مخرج يُفترَض أنّه كيارستمي نفسه إلى منطقة تصوير الجزء الأول، لمعرفة مصير صبيّين مثّلا فيه، إثر الزلزال الكبير شمال إيران. ختام الثلاثيّة مبنيّ على زواج حسين وطاهرة في الجزء السابق. هكذا، تولّد الأفلام بعضها من دون تخطيط مسبق، ليحتفي كيارستمي بالحياة في عمق الريف المهمّش (دائماً تكون شخصيات الريف مبتسمةً متصالحةً مع نفسها، بعكس أبطال المدينة المتجهّمين). كذلك، باستبدال «أين منزل الصديق؟» بـ «طعم الكرز»، نصبح بصدد ثلاثية أخرى عن «قيمة الحياة». في الشريط الأخير، يبحث المنتحر عمّن يهيل التراب فوق جسده في قبر مجاور لشجرة. يطلب خدمات مجنّد كردي، وعامل أفغاني، وعجوز تركي. هذا بحث عن الحياة في وجوه البسطاء وبهاء الطبيعة والتفاصيل الصغيرة. لم يتخذ كيارستمي من الانتحار موضوعاً أثيراً، إلا ليفتّش عن النجاة والاستمرار. التنقّل بالـ «رانج روفر» البيضاء عبر الطرق الترابية والهضاب والفيافي، رحلة جسديّة روحية داخل النفس والشخصية الإيرانيّة. السيارة التي تحضر كثيراً في فيلموغرافيا الرجل، بل حياته الشخصية، مكان مثالي لجمع شخصيات متباعدة وخلق حوار بينها. النوافذ شاشات وعدسات مفتوحة على بصريّات ضرورية. في «عشرة» (2002 ــــ 94 د.)، تقلّ امرأة عشرة ركّاب في سيارتها التي تجول شوارع طهران. إضافةً إلى واقع النساء الإيرانيات، تتناول ثرثرة الطريق الكثير من المسكوت عنه حول الحب، والزواج، والعاطفة، وفساد القضاء، والدين، والجنس، والدعارة، والإجهاض، والمخدرات. هذا ما سيكرّره مساعده السابق جعفر بناهي في «تاكسي» (2015، 82 د.)، الذي نال الدب الذهبي في «برليناله» 2015. بناهي كان قد نال «الكاميرا الذهبية» في «مهرجان كان» عن «البالون الأبيض» (1995 ــــــ 85 د.)، الذي كتب السيناريو له كيارستمي نفسه. لاحقاً، تولّى كيارستمي عجلة القيادة في الوثائقي «عشرة على عشرة» (2004 ـــــ 88 د.)، ليعطي عشرة دروس في السينما والتكنيك. في رائعته «كلوز آب» (1990 ــــ 98 د.)، صاغ رسالة حبّ وامتنان للسينما، من خلال فقير يدّعي أنّه محسن مخملباف للاحتيال على عائلة ثريّة.
مع الألفية الثالثة، رفع جرعة التجريب. راح يستكشف سينما الديجتال، ومستويات الصورة وقدرتها على البوح الشعري. لم يُطلق على كيارستمي لقب «شاعر السينما» عبثاً. في «خمسة» (2003 ـــــ 74 د.) المهدى إلى الياباني ياسوجيرو أوزو، نتأمّل خمس لقطات طويلة للبحر، مع عناصر وأصوات الطبيعة، وقدر وافر من الشفافية. في شريطه المدهش «شيرين» (2008 ـــ 92 د.)، بلغ كيارستمي عتبة رفيعة في ارتقائه التجريبي. نغرق في تعابير وجوه 112 ممثّلة إيرانية إضافةً إلى جولييت بينوش، يُفترَض أنّهن يشاهدن فيلماً أو مسرحية، عن حكاية الحب المأساوية بين الأميرة الأرمينية شيرين والملك الفارسي خسرو. دفق لا يُضاهى من المشاعر والانفعالات. ردة فعل الممثّل في أبهى تجلّياته.
على الرغم من كلّ التأويلات، لم يصنع كيارستمي أفلاماً سياسيّة الطابع. لم يوالِ النظام، كما لم يهاجمه بشراسة مثلما تأمّل الغرب. قال الكثير من خلال صمت شخوصه. أجاد صنع اللا شيء، وحوّله إلى أسلوب بحدّ ذاته. انتصر للإنسان لا النموذج. اليومي المعاش لا الدراما الفاقعة. الهمّ الصغير كمندوب عن حال عام. أفسح المجال لتوهّج التفاصيل: الوردة في الدفتر. الأصيص على الدرّاجة البخارية. الأبواب الهشّة. الغسيل المتطاير. الجوارب ممزّقة الكعب. الدروب المتعرّجة والتلال الوعرة. تشهق الأنفاس أمام كثير ممّا لا يجيده سواه، بكلّ تلك العذوبة والرقّة والبساطة والسحر. ببساطة، عباس كيارستمي من أعظم ما عرفت كاميرات السينما، إن لم يكن أعظمهم بنظر كثيرين. كتب يوماً: «أصل وحدي/ أشرب وحدي/ أضحك وحدي/ أبكي وحدي/ وسأرحل وحدي».

0 تعليق

التعليقات