تلقي مراسلات الدبلوماسية الأميركية التي نشرها موقع «ويكيليكس» أخيراً الضوء على رؤية الولايات المتحدة للخريطة المعقدة للعلاقات والصراعات في شرق وجنوب شرق آسيا عام 1978، و"تعاطفها" حينذاك مع سعي الصين إلى بناء قدراتها التكنولوجية، المدنية والعسكرية. ومن شأن مقارنة صورة المنطقة آنذاك، وإن بمنظار أميركي، مع الصورة الراهنة للمنطقة التي تشهد تبريداً للصراعات التقليدية، لمصلحة مشاريع الاندماج الإقليمي والعالمي التي تقودها الصين الحديثة، أن يلاحظ حجم التحول في النظام العالمي، الحاصل في عقود قليلة من الزمن.
"قد يكون التطور الأهم بالنسبة إلى الاطلسي هو التغير في السياسة الخارجية الصينية، نحو الانشغال الطاغي بتوسع النفوذ السوفياتي حول العالم"، تقول برقية لوزارة الخارجية الأميركية بعنوان "تقرير خبراء حلف شمال الأطلسي حول الوضع في شرق آسيا وجنوبها"، بتاريخ 3 أيار 1978. يوضح التقرير أن هذا "الانشغال الطاغي" دفع الصين إلى أن "تدعم بقوة المنظمات التي تشجع التماسك الإقليمي بين الأمم غير الشيوعية"، وأن مسؤولي "الأطلسي" "واعون لمصلحة الصين بأطلسي قوي". ويقدم خبراء الحلف دعم الصين للسوق الأوروبية المشتركة ومنظمة "آسيان" كأدلة على ما يذهبون إليه، مشيرين إلى أن الصين باتت تدعم بناء التحالفات بين دول العالم الثالث ودول العالم الثاني، وأنها بذلك "ما عادت تدين التعاون بين الدول النامية المستقلة حديثاً وبين المراكز الرأسمالية التي كانت تتبعها؛ بل إنها باتت تحيي تعاوناً كهذا". ويضيف التقرير أن الصين تحاول دفع اليابان نحو تبني موقف معادٍ للسوفيات، وقبول بند يلزمها بموقف "مضاد للهيمنة" في اتفاقية السلام والصداقة التي يتفاوض البلدان حولها؛ وذلك فيما "تبدو الصين راغبة بتوسيع علاقاتها مع الولايات المتحدة، حتى في الوقت نفسه حين تصر على شروطها الأساسية الثلاثة في ما خص تايوان، وقبل أن تقبل بتطبيع كامل لعلاقاتها مع واشنطن". ويرى خبراء "الأطلسي" أن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الصينية هذه تستند إلى "الموقف المعادي للسوفيات، الموروث من (قائد الثورة الصينية) ماو تسي تونغ، وتحظى بإجماع القيادة الصينية الحالية".
ويحذر معدو التقرير من أنه، فيما لا تمثل شرق وجنوب آسيا مناطق ذات أولوية بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت، يجب على "الأطلسي" أن "يتوقع أن يعمل السوفيات، بانتهازيتهم ومحاولاتهم المعتادة لفرض نفوذهم، لتعظيم دورهم في هذه المنطقة". ويلحظ خبراء "الأطلسي" في هذا السياق، "باهتمام خاص، النزاع بين فيتنام وكمبوديا، الذي شجع تعزيز الروابط بين فيتنام والاتحاد السوفياتي"، موضحين أن الدعم السوفياتي "السخي" لهانوي "يقلق الصينيين من نشوء خطر استراتيجي جنوبي بلادهم، وشمالها أيضاً".
ويتابع التقرير: "الظاهر أن الكمبوديين يعتقدون، كما نعتقد نحن، أن الهدف النهائي لهانوي هو فرض نمط "العلاقة الخاصة" نفسه على كمبوديا، كذلك الذي يجمع فيتنام بلاوس"، لافتاً إلى أنّ على فيتنام أن تأخذ في الاعتبار رد فعل الصين، "الداعمة القوية لكمبوديا"، على أي خطوة قد تقوم بها فيتنام ضد نظام "بول بوت" في البلاد، "تماماً كما على الصين أن تأخذ في الاعتبار أن أي رد فعل عنيف من جانبها، ضد أي هجوم فيتنامي ضخم على كمبوديا، سيدفع هانوي لأن تصبح أكثر قرباً من السوفيات"، ما سيشكل تهديداً "حتمياً" للصين.
ويتحدث التقرير عن "تعاطف الحكومة (الأميركية) مع رغبة الصين بتحديث اقتصادها وتحسين قدراتها الدفاعية"، مشيراً إلى "اعتماد هدف القيادة الصينية التحديث المدني والعسكري على الاستحصال على كميات ضخمة من التكنولوجيا والمعدات الأجنبية"، ولافتاً في الوقت نفسه إلى أن مبيعات التكنولوجيا العسكرية إلى الصين يجب أن يخضع لضوابط معينة. ويرى معدو التقرير في هذا السياق أن "دول الأطلسي يجب ألا تنحني للضغوط السوفياتية (لعدم تسليح الصين بشكل مناسب)، وأن لا تعطي الصين معاملة خاصة لدرجة تقدّم للسوفيات أسباباً مشروعة للقلق من الجهود الغربية لتسليح الصين هجومياً ضد الاتحاد السوفياتي".
وفي السياق نفسه، وفي برقية أخرى بتاريخ 20 تموز 1978، عنوانها "الوضع في الهند الصينية ــ مخصص للأدميرال وايزنر حصرياً"، يعزو معدو التقرير التوتر السائد في الهند الصينية إلى "احتكاكات قديمة بين كمبوديا وفيتنام، وبين فيتنام والصين، لها جذور تاريخية طُمست نسبياً لما يقارب القرن من الوجود الفرنسي والأميركي لاحقاً". ويلاحظ التقرير أن "مناطق التوتر الثلاث الكبرى هي جميعها بين أنظمة شيوعية، (حيث تستند التوترات" إلى) المشاعر القومية والعداوات التقليدية" بين دول الاتحاد السوفياتي والصين، وبين الصين وفيتنام، وبين فيتنام وكمبوديا، والتي تشعلها النزاعات الحدودية بين هذه الدول، كما الاعتبارات الإثنية.