طوى الرئيس رجب طيب أردوغان مع إزاحة رئيس وزرائه أحمد داوود أوغلو نظرية «صفر مشاكل» التي أرساها الأخير منذ تسلّمه وزارة الخارجية. أرخت سياسات أنقرة منذ «الربيع العربي» بثقلها على «منظّر» حزب العدالة والتنمية الحاكم. كانت «المشاكل» تتوالى منذ إسقاط الرئيس المصري السابق محمد مرسي، وفشل «الإخوان» في تونس إلى الصداع السوري المتواصل.
عند الحدود الجنوبية لتركيا، انخفض سقف الأحلام «المرسومة» من قلب النظام في سوريا إلى منطقة عازلة في حلب، وصولاً إلى التلويح بالتدخّل ضد الأكراد في حال قطعهم «الخطوط الحمر». لكن، كل خطّ أحمر وضعه أردوغان لم يكن أكثر من كلام وتهديدات فارغة. ومع إسقاط الطائرة الروسية في 24 تشرين الثاني الماضي، وما نتج من «تأديب» روسي لحكام أنقرة في الاقتصاد والميدان، انتهى المطاف بالرئيس التركي إلى إطفائي ينقل جنوده إلى شرق بلاده وجنوبها، وينتظر التفجيرات في إسطنبول وأنقرة... ويحصي الحرائق مع «صفر جيران» و«صفر أصدقاء» و«صفر استقرار داخلي». أمّا رجال الأعمال، فقد جلسوا يراقبون خروج المستثمرين الروس ويتابعون بمرارة التراجع الكبير لليرة التركية.
اليوم، يعمل أردوغان بواقعية أكبر. وضع خلفه «الحاضنة» العربية التي استفاد منها جيداً بعد حادثة سفينة مرمرة عام 2008، وخَفضَ سقفه من رفع الحصار عن غزة إلى سفن تحمل المساعدات إلى ميناء أسدود لتدخل تحت إشراف الاحتلال الإسرائيلي ومراقبته. التحوّل التركي خلفه مصالح اقتصادية (أحدها نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا) وأخرى تهدف إلى الخروج من العزلة الإقليمية والدولية، فأبواب الاتحاد الأوروبي موصدة، وأزمة اللاجئين ما زالت ماثلة أمام الجميع، فيما الخلاف مع الإدارة الأميركية يبدأ في سوريا ويكبر عند علاقة واشنطن مع الأكراد على حدوده.
الصداع الكردي، إذاً، الممتد من الحرب الداخلية مع حزب العمال إلى الكردستاني إلى الفيدرالية المعلنة في الشمال السوري العاملة على وصل عين العرب بعفرين لتغطي كل الحدود التركية، أدّى في جزء كبير منه إلى إزالة حاكم أنقرة عن نفسه وجه الغطرسة والغرور. صفتان لازمتا سلوك من أراد يوماً أن يصلّي في الجامع الأموي في دمشق، ومن عيّن نفسه وصيّاً و«أميراً» على الحراك العربي والقضية الفلسطينية.
معلومات عن بعث أردوغان قريباً برسائل إيجابية إلى القاهرة

اليوم، النار المشتعلة في المنطقة لم تعد بحاجة إلى من يرمي فيها المزيد من الوقود. الحرائق لامست قصر شنقايا، والسلطان مرغم على المبادرة والانحناء قليلاً لعله يحدّ من الخسائر، ليعاود لاحقاً الاستفادة من الفرص السانحة مستقبلياً.
رسالته أمس لنظيره الروسي فلاديمير بوتين توضح المآل الذي وصل إليه. من حاكم مطلق يتصرّف كأن لديه ثأراً شخصياً مع خصومه، يهاجم واشنطن والأوروبيين غير آبه للنتائج، ويخنق الإعلام والأحزاب المعارضة في بلاده... إلى رجل يقدّم اعتذاراً بعد مكابرة وتشاوف. فهو بعد إسقاط السوخوي الروسية، أكد في مقابلة مع
CNN أنّ بلاده لن تعتذر لموسكو، وأن «هؤلاء الذين انتهكوا مجالنا الجوي هم من يجب أن يعتذروا». ورأى أن بوتين «ارتكب خطأً كبيراً» بتصريحاته عن أن إسقاط تركيا للطائرة «طعنة في الظهر ودعم للإرهابيين». أشهر قليلة وانقلب السحر على الساحر.
اعتذار وأسف لم يكن للرئيس «الأوحد» أن يخطّهما إلى غريمه في الأشهر السبع الأخيرة، لولا علمه بحال السياسة الخارجية والأوضاع الاقتصادية والأمنية السيئة التي تمرّ فيها بلاده. لذا، سريعاً في يوم تطبيع العلاقات مع تل أبيب، أعلن أنّه «سيبذل كل ما بوسعه لإصلاح العلاقات الودية تقليدياً بين تركيا وروسيا». وفي الوقت الذي احتدم فيه النقاش حول عبارة «الأسف» بعد بيان الكرملين بأنها «اعتذار»، عقد إبراهيم كالين، المتحدث الرسمي باسم الرئيس، مؤتمراً صحفياً ليقول إنّ أردوغان «عبّر عن أسفه» لسقوط الطائرة ومقتل الطيار الروسي.
لكن عملياً، تصريح وزارة الخارجية التركية عن مشاركة الوزير مولود جاويش أوغلو في اجتماع مجلس التعاون لدول حوض البحر الأسود الذي سيعقد في مدينة سوشي الروسية في الأول من تموز، يوضح الحراك السريع نحو طيّ صفحة الخلاف.
خطوات أنقرة سبقتها «بروفة» رسالتَي التهنئة من أردوغان إلى بوتين ورئيس الوزراء ديميتري ميدفيديف قبل أسبوعين بمناسبة العيد الوطني الروسي.
أوساط سياسية وإعلامية تركية اعتبرت ما يجري إثباتاً لإفلاس سياسات الرئيس أردوغان، الذي من المتوقع أن يحمّل رئيس الوزراء «المُقال» أحمد داوود أوغلو مسؤولية هذا الفشل. كذلك تسري معلومات عن بعث أردوغان قريباً برسائل إيجابية إلى القاهرة، قد تكون باكورتها العلنية رسالة إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي بمناسبة العيد الوطني المصري في ٢٣ تموز.
في المقابل، بدأ التداول في كيفية عودة العلاقات بين الطرفين لتكون مشابهة، مثلاً، لعلاقة تركيا مع طهران من حيث الشراكة الاقتصادية وكباش في سوريا، أو أنّ ضرورة العمل المشترك ضد «مشروع» الأكراد في سوريا، يحتّم على أنقرة تقديم تنازلات في الحرب الدائرة، كإقفال الحدود وإيقاف دعم المسلحين ــ وهذا ما طلبته موسكو وطهران مراراً في الجلسات المقفلة ــ مقابل ضمانات روسية (ومن خلفها سوريا) للحيلولة دون قيام كيان كردي. قبل أشهر، توعّد أردوغان موسكو بردّ من حلف شمال الأطلسي على أي اختراق جديد للمجال الجوي لبلاده. «الناتو» أدار ظهره لمشاريع حليفه المجنونة، ووضع نفسه تحت تصرّف واشنطن في «التحالف الدولي ضد داعش». بقيَ «السلطان» وحيداً في المعركة. ظنّ أنّه يستطيع جرّ اللاعبين الكبار إلى «نزواته» الإقليمية، لكن ها هو يتموضع مجدداً... بحثاً عن دور لا يخنقه ويحافظ فيه على الحد الأدنى من أمنه القومي والاقتصادي.




«غازبروم»: مستعدون لمباحثات حول «السيل التركي»

أعلن المتحدث الرسمي باسم شركة «غازبروم» الروسية، سيرغي كوبريانوف، أنّ الشركة لا تزال مستعدة لاستئناف الحوار في مشروع بناء خط أنابيب نقل الغاز الروسي إلى تركيا «السيل التركي». وأضاف لوكالة «نوفوستي» الروسية، أمس: «لقد كنّا دائماً منفتحين للحوار في مشروع السيل التركي، وما زلنا منفتحين».
وكانت روسيا قد علقت في نهاية العام الماضي المباحثات مع أنقرة بشأن مشروع نقل الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وفرضت حظراً على استيراد عدد من المنتجات الزراعية والمواد الغذائية من تركيا، وعلقت عمل اللجنة الحكومية الروسية التركية المختصة بالتجارة والتعاون الاقتصادي. كذلك فرضت تأشيرات دخول على الرعايا الأتراك إلى الأراضي الروسية، وحظرت استخدام الأيدي العاملة التركية في روسيا، بالإضافة إلى وقف رحلات الطيران غير المنتظمة «تشارتر» من تركيا وإليها.
يشار إلى أن مشروع غاز «السيل التركي» يهدف إلى نقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر قعر البحر الأسود، ومنها إلى أوروبا، حيث من المتوقع أن تبلغ القدرة التمريرية له نحو 63 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.