منذ أن صدر القانون الأميركي بفرض عقوبات على حزب الله ومؤسسات تابعة له، يتعامل بعض المسؤولين في لبنان مع هذا الأمر بشيء من الخفّة. إذ يتصرف هؤلاء وكأن العقوبات فصل مستقل عن المجريات اللبنانية، وأن الحزب وحده معني بها، ولن تطاول إلا مؤسساته، وتالياً ستساعد في تجفيف منابع تمويله وتؤدي إلى تأثيرات سلبية على "المجتمع الشيعي" وبيئة الحزب المباشرة وغير المباشرة.والخفة أيضاً تكمن في أن هؤلاء يتعاملون مع قانون العقوبات وكأن الحزب سيقف مكتوف اليدين وسينصاع فوراً لتلبية الطلبات الأميركية وأسلوب تطبيقها عبر المصارف اللبنانية، ولن يستخدم أياً من أوراقه للدفاع عن وجوده الذي يعتبره مستهدفاً بفعل العقوبات الأميركية.
بين الأمرين، ثمة من ينسى أن ما يجري هو إحدى حلقات تتصل بواقع الإدارة الإميركية المنتهية ولايتها بعد أشهر قليلة، وأن هذه الإدارة تتخلى تدريجاً عن تورطها في الشرق الأوسط ولبنان. ويقول أحد المطلعين والمتابعين للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط إن المسؤولين اللبنانيين يتجاهلون أن واشنطن مقبلة على مرحلة انتخابية مفصلية تتعلق بنوعية المرشحين المتنافسين، الجمهوري والديموقراطي، اللذين تختلف توجهاتهما حيال الشرق الأوسط وأسلوب التعامل مع المنظمات الإرهابية وإيران وسوريا والعراق وغيرها من الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية، عن تلك التي اعتمدتها إدارة الرئيس الحالي باراك أوباما. إلا أن الأشهر الخمسة قد تكون أيضاً مفصلية، ولا سيما بالنسبة إلى النزاعات الحالية، وتحديداً العراق وسوريا، وما يعنينا منها مباشرة الوضع السوري. فالترتيب الأميركي ـــ الروسي أرخى في الأشهر الماضية نوعاً من التفاهمات أدت إلى آليات متوافق عليها في التعامل الدولي مع سوريا، وهذا ما يشجع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على محاولة استمرار هذا التواصل مع أوباما وسعيه إلى إيجاد تسوية مبكرة قبل انتهاء ولاية الرئيس الأميركي. وثمة مؤشرات ورسائل مباشرة وغير مباشرة تعني الوضع السوري، يحاول بوتين العمل عليها لاستكمال تطبيع الوضع السوري والنفاذ بتفاهم متطور وسريع يسبق أي إدارة أميركية جديدة، معروفة تماماً توجهاتها حيال سوريا ونظام الرئيس بشار الأسد، سواء وصلت المرشحة هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب.
لكن الرهان على إدارة أوباما الحالية قد لا يسفر بالضرورة عن إنجاز اتفاقات سريعة. إذ يتحدث مسؤولون في دول عربية عن "انسحاب" أميركي مباشر في الآونة الأخيرة من كثير من الملفات الحيوية في العراق وسوريا والسعودية، وعن أن واشنطن لا تبدو حالياً في موقع الاهتمام الفاعل والحيوي بأي من الملفات العالقة أو الضرورية معالجتها تفادياً لتأثيراتها الإقليمية والدولية. وينسحب هذا الأمر على التعاطي الأميركي مع لبنان.
الإدارة الأميركية "غير موجودة" بالمعنى العملي للتعاطي مع لبنان سياسياً ومالياً وأمنياً

ثمة مَثَل معبّر يتعلق بمغادرة القائم بالأعمال الأميركي ريتشارد جونز منصبه في مرحلة دقيقة محلياً، بسبب الشغور الرئاسي والأزمة الداخلية العالقة، وأيضاً بسبب تداعيات القانون الأميركي الجديد على الوضع اللبناني والاستقرار المصرفي. يغادر جونز بعدما صدّق الكونغرس منتصف الشهر الماضي على تعيين السفيرة الجديدة اليزابيت ريتشارد، التي عينها أوباما في شباط الماضي، علماً أن الإدارة الأميركية مقبلة على متغيرات بسبب الانتخابات، فيما تتسلم السفيرة الأميركية الجديدة مهماتها في فترة حرجة لبنانياً، ويفترض أن تحتاج وقتاً طويلاً كي تتكيف مع الوضع اللبناني ومتطلباته، الأمر الذي استدعى أسئلة عن هذا التوقيت مهما تنوعت المبررات الإدارية التي تعطى أميركياً. علماً أن ريتشارد خصصت في شهادتها أمام الكونغرس، في العاشر من آذار الماضي، للتصديق على تعيينها، جزءاً من كلامها وملفاتها لحزب الله وتدخله في سوريا، وأكدت دعم الإدراة الأميركية لقانون العقوبات ضد الحزب "وضرورة التوصل إلى الهدف منه بتفكيك شبكته المالية الدولية"، وأن "لواشنطن ولبنان مصلحة في ضمان ألا يخترق حزب لله القطاع المالي اللبناني"، وأنها ستعمل مع هذا القطاع لتعزيز التعاون بين واشنطن وبيروت لمكافحة تبييض الأموال والإرهاب. وهذا يعني أن المسار الأميركي الذي انطلق نهاية العام الفائت، وتطور تدريجاً، من شأنه أن يضاعف الأثقال التي تلقى على الوضع اللبناني المهترئ أساساً، والذي بدأ يفقد مع الانتقال من مرحلة أمنية إلى مرحلة مالية ونقدية، أحد عناصر استقراره. فصانعو القرار الأميركي واعون لتداعياته وتأثيراته اللبنانية الداخلية، وهذا ما ظهر في بياناتهم والشهادات التي قدمت في مراحل التصويت عليه. وكذلك الأمر، فإن بدء التنفيذ لبنانياً ومراقبته عبر الموفدين الأميركيين، رغم كل التوضيحات والمحاذير التي اطلعوا عليها، يعني أن عنوان الاستقرار لم يعد يعبّر عن النظرة الأميركية تجاه لبنان.
المشكلة الأساسية أن السلطات الرسمية شبه غائبة عن التعامل مع الإدارة الأميركية سياسياً للحفاظ على ما سمي مظلة أميركية حيّدت لبنان حتى الآن عن تداعيات الأزمة السورية وجنّبته خضات أمنية متتالية. وذلك يفترض أن يجري بعيداً عن التجاذبات حول القانون المالي نفسه، لأنه عملياً صار ساري المفعول ولن يُتراجَع عنه، لكنه قابل لأن يعدل أو يجري التكيف معه وفق آليات محددة أميركياً. المشكلة أيضاً أن الإدارة الأميركية اليوم "غير موجودة" بالمعنى العملي للتعاطي مع لبنان سياسياً ومالياً وأمنياً، بعكس ما كان عهدها دوماً. ثمة متغيرات أميركية قد نشهد تأثيراتها السلبية على لبنان في الأشهر المقبلة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية، في مقابل تقهقر لبناني وتراجع عن أي مبادرة عقلانية بعيداً عن الانفعالات المؤيدة للعقوبات والرافضة لها، تعيد ترتيب الوضع الداخلي وتحفظ الاستقرار بالحد الأدنى الذي كان معمولاً به حتى الآن.