اليوم، يكون العالم مع مناسبة كونية استثنائيّة في عالم الفكر. تحلّ الذكرى الـ2600 لميلاد الفلسفة. 26 قرناً من الفلسفة تكون قد مرت بحلول يوم 28 أيار (مايو) 2015. كان حرياً بهذا العام أن يكون عام الفلسفة بامتياز، بدل أن يكون عام الحروب، والصراعات، والعنف. لكن حتى منظمة اليونسكو التي كانت قد خصّصت ــ منذ عام 2002 ــ يوماً عالمياً للفلسفة، حدّدته بالخميس الثالث من تشرين الثاني من كلّ عام، لم تنتبه للمناسبة، ولم تعتمدها. ومن غير المعروف، بالضبط، المعيار الذي تمّ بموجبه اختيار شهر تشرين الثاني ليشهد اليوم العالمي للفلسفة، وليس شهر أيار (مايو) الذي ولدت فيه الفلسفة فعلاً. لا أحد يعلم بالضبط في أي ساعة من اليوم ولدت الفلسفة. لكن مؤرخوها يحدّدون بدقّة يوم ميلادها في 28 أيار (مايو) عام 585 قبل الميلاد في جزيرة «أيونيا» على يدي الفيلسوف اليوناني طاليس. حدثت ظاهرة فلكية مهمّة في ذلك اليوم، هي كسوف الشمس الذي كان طاليس قد تنبأ به بدقّة متناهية، قبل حدوثه، ما حدا بمؤرخي الفلسفة لاعتماد هذا اليوم كنقطة بداية تأسيس الفلسفة.

طبعاً المقصود بالفلسفة هنا هو «الفلسفة الغربية»، باعتبار أن «تاريخ الفلسفة» هو تاريخ «الفلسفة الغربية». كما أن «تاريخ العقل» هو تاريخ «العقل الغربي»، وهذه كلها تقييمات كولونيالية بالنهاية، قد نختلف أو نتفق معها، ولكننا، للأسف، لا نزال نستخدم تلك التقييمات، مثلما نستخدم أي مصطلح كولونيالي غربي آخر، دون أن ننسى، أو نتجاهل، وجود الفلسفة في الصين والهند قبل ذلك التاريخ.
يكاد لا يمرّ يوم من دون أن يسمع أحدنا عبارة «بلا فلسفة لو سمحت»، والمراد بها «بلا سخف أو بلا ثرثرة»، ما يدلل على مقدار استخفافنا، أو حتى احتقارنا للفلسفة، وعلى أنّ الفكرة المسبقة، المأخوذة عنها، أنها مجرد لغو وثرثرة وتلاعب بالألفاظ. غير أنّنا اليوم أحوج ما نكون إلى التفلسف، والتفكير والنقد، وبالتالي التسامح، الذي هو ماء، وهواء الفلسفة. فلا فلسفة بلا تسامح، ولا تسامح بلا فلسفة. لطالما كان الشك، والنقد، ونسبية الحقيقة، والاعتراف بالاختلاف والخلاف هو جوهر الفلسفة، وهو جوهر التسامح. ولأننا في السنوات الأخيرة أصبحنا في خنادق، وتحزّبات، وخلافات، واحترابات، وقتالات، فإننا أحوج ما نكون إلى تسامحنا مع ذواتنا، ومع بعضنا بعضاً، وتسامحنا مع الآخرين، وهل هناك أداة للتسامح أعظم من الفلسفة، وأعظم من أدواتها العقلية والروحية والأخلاقية؟

الشك والنقد ونسبية
الحقيقة والاعتراف بالاختلاف هو جوهر الفلسفة

من هنا يولد التساؤل. هل نحن (كعرب أوكمسلمين) شعوب قابلة للتفلسف؟ هل نمتلك ملكات الشك والنقد والاختلاف والاعتراف بالآخر، وبالتالي ملكة التسامح؟ هل حقاً نحن مجرد «ظاهرة صوتية»، ولسنا «ظاهرة لغوية أو فكرية» على حد تعبير المفكر السعودي عبد الله القصيمي؟ ثمّ هل عندنا فلاسفة بالمعنى الحقيقي، والمعتاد للكلمة؟ ولماذا الإصرار على لقب مفكر، وليس فيلسوف، في ما يخص مفكرينا، أو «فلاسفتنا» المعاصرين؟ وإذا كنا نمتلك هؤلاء الفلاسفة حقاً، فمن هم؟ ما هي أسماؤهم؟ وما هي فلسفتهم؟ أسئلة كثيرة برسم المختصين بالفلسفة للإجابة عنها. تمّ تعريف الفلسفة (حب الحكمة) بتعريفات، وطرق كثيرة، ولكن أعظم وأحدث تعريف لها، ونحن نعيش عصور العلم الذهبية أن الفلسفة هي «أخذ المعنى من العلم». بعدما كانت الفلسفة «أم العلوم»، وبعدما اعتقدنا أن كل تلك العلوم قد هجرتها، وتخلّت عنها، ها هي تلك العلوم تعود لتقبّل قدمي أمها، وتضع أحدث اكتشافاتها، ونتائج بحوثها، أمامها، لتقوم تلك الأم الرؤوم بالتمحيص في تلك الاكتشافات والنتائج، لتأخذ المعنى منها، وتعيد إنتاج الحقيقة، لا اليقين، وشتّان ما بينهما، فالحقيقة قابلة للبحث والنقد والاختلاف، وبالتالي التسامح، بينما اليقين يسدّ عليك كل الطرق، ولا سبيل لك لمقاربته، ما يولد الصراعات والخلافات والعداوات، ولربما الحروب.
عام مجيد للفلسفة، وعصر تليد يا فلاسفة، ويا حبذا لو نتذكر جميعنا أنّ الفلسفة ولدت قبل اليوم بـ2600 عام، ولربما يكون التسامح هو إكرام وتكريم للفلسفة. وتصحّ مقولة «تفلسفوا تتسامحوا» كشعار لأيامنا المقبلة.