«سيعود المنتصر (والمجاهد الأكبر) على حصانه البرونزي إلى قلب العاصمة التونسية، كما عاد قبل أكثر من 60 عاماً عشية الاستقلال»؛ هكذا ينظر أحد محبي تونس إلى حدث إعادة نصب الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، إلى قلب العاصمة، بعد تغييب دام نحو 29 عاماً.فور الانقلاب عليه، عام 1987، غيّب نظام زين العابدين بن علي «الزعيم»، ووضعه تحت إقامة جبرية إلى تاريخ وفاته عام 2000. حتى إنّ بن علي حاول إخفاء تماثيله وصوره من ساحات البلاد، وكانت الأبرز بين تلك المحاولات الهادفة إلى بتر الذاكرة الجمعية، نقل نصب بورقيبة الضخم من وسط العاصمة إلى منطقة حلق الواد القريبة، التي تضمّ ميناء كان بورقيبة قد وصله في الأول من حزيران 1955.
إنّ موت بورقيبة «القسري» عام 1987 سمح لخليفته، بن علي (مُخرج ومنفذ الانقلاب)، بإضفاء الأبعاد التي يريدها على حكمه الجديد، ناقلاً البلاد إلى مرحلة حُكمت تحت سقف وشعار «السابع من نوفبر» (تاريخ الانقلاب)، واستناداً إلى «البيان الأوّل» الصادر لإتمام العمل الانقلابي.
بصرف النظر عن اختلاف لغة الانقلاب ذاك عن لغة وزمان الانقلابات العربية المؤسسة لعهد الجمهوريات، منتصف القرن الماضي، فإنّ عدم سماح نظام بن علي بإكمال فعل العزاء والحداد (بمعنييه الحقيقي عام 2000 والمجازي عام 1987) على مرحلة بورقيبة، قد يكون من تداعياته بلورة ذاكرة تاريخية مرتبكة لم تقطع بعد مع «الشيء الذي ضاع واختفى». وهذا ما تشير إليه أستاذة التاريخ المعاصر، قمر بندانة، في مقال أخير لها: «أيقظ رحيل بن علي غير المنتظر تأنيب الضمير على عدم منح بورقيبة المكانة التي تجدر به. ومنذ 2011 ازدادت جاذبية الرمزيّة البورقيبيّة، وخاصة بعد مرحلة لم يظهر فيها أيّ زعيم».

فعلٌ واستثمار سياسيان

خلال حديث إلى «الأخبار»، يقول الكاتب والأكاديمي التونسي، عبد الجليل بوقرة، إنّ «خصوم بورقيبة سعوا إلى رسم صورة مشوّهة له وحاكموه بمقاييس أيديولوجيّة، وبمنطق الإسقاط، فضاعت مع قراءتهم الحقيقة التاريخيّة، مقابل المسعى الدّؤوب لـ(مقدّسي المجاهد الأكبر) إلى رسم صورة فوق البشريّة له، لا تعكس سوى شدّة تعلّقهم به وإصرارهم على تنزيهه وعجزهم عن التأقلم مع واقع تونس ما بعد بورقيبة... فكان أن سقط بورقيبة في فخ التجاذبات بين أصوات انتهازية لا تمتّ له بأية صلة، وأصوات حاقدة لا تمتّ لتونس بأية صلة».
بينما يرسم حديث بوقرة إطاراً عاماً لمجمل مرحلة «ما بعد بورقيبة»، يشير الباحث في علم الاجتماع، التونسي، فؤاد غربالي، في مقال نشره قبل أيام، إلى أنّ «عودة بورقيبة ليست مجرد استعادة لتمثال... بل هي أعمق من هذا بكثير إذ تتمّ استعادة مرحلة من تاريخ تونس الحديث بكل حمولاتها الرمزية والمعنوية، غيّبها نسبياً النظام السابق».
كذلك، يشير غربالي (الذي يبدأ مقاله بعبارة: نحن لا نعاني الأحياء فقط بل من الأموات) إلى أنّ الاستعادة تمثّل «فعلاً سياسياً بامتياز، بل استثمارا سياسيا في الذاكرة المعاصرة لتونس، حيث تحولت البورقيبية بعد 14 كانون الثاني/جانفي 2011 إلى موضوع للنقاش السياسي، ورهان للصراعات الأيديولوجية الدائرة بين جماعة الحداثة الممثلة في الأحزاب ذات المرجعية الدستورية وبعض الأحزاب اليسارية، وجماعة الهوية ممثلة بالإسلاميين».
ولعلّ إدراج فؤاد غربالي «استعادة المرحلة التاريخية» في خانة «الفعل والاستثمار السياسيين»، وقبله حديث بوقرة، يسمحان بعدم وضع ما هو حاصل في تونس راهناً ضمن إطار سياسة المصالحة مع ماضي البلاد، أو ضمن سياق صياغة ذاكرة جمعية متوافق عليها.
خالد فهمي: غياب التوافق المجتمعي ينعكس على اختيار التماثيل وأماكنها

«العودة» في ظرفها السياسي

تترجم عملية إعادة النصب إلى مكانه الأساسي ما كان قد وعد به الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، الذي كان يقدّم نفسه سياسياً بعد عام 2011 بصفته أحد ورثة الزعيم الراحل وأحد حاملي «مشروعه التحديثي»، والذي أراد أن يكرّس نفسه في وقت لاحق، أي منذ انتخابات 2014 (التشريعية والرئاسية)، كبانٍ للجمهورية الثانية. والسبسي ليس إلا «البورقيبي الوفي»، كما وصفه أستاذ العلوم السياسية التونسي، حمادي الرديسي، عام 2012، وذلك قبل أن يتساءل بعد عامين: «فشل بورقيبة الموهوب في تنظيم المرور من حكم مبني على الهالة إلى الإدارة العادية للدولة. وكان انقلاب السابع من نوفمبر سيّئ الصيت حلا استثنائياً لغياب حل استباقي يعقل الخلافة؛ أخرجنا من المأزق لكي يسقطنا في الدكتاتورية. فهل سينجح الباجي قائد السبسي في تعديل هالته الشخصية مع وضع مؤسساتي أعلى منه؟». وكان ذلك أيضاً قبل أن تنحصر حماسة الرديسي بصورة أو بأخرى بعد «خيبة المسعى» إثر توجّه حزب قائد السبسي (نداء تونس) عقب النجاح في الانتخابات نحو مرحلة الخلافات الداخلية فالانشقاقات.
أحد التونسيين رأى قبل أيام أنّ «السبسي يصرّ على رمزية إعادة النصب خلال رئاسته... وقبل رحيله». لكن من المفارقات، أن تنتهي أعمال القاعدة، وأن يؤتى بالنصب مغطى إلى وسط العاصمة، بالتزامن تقريباً مع انتهاء المؤتمر العاشر «التاريخي» لحركة النهضة، ثاني أعمدة نظام الحكم في تونس راهناً. هل «الصدفة» مثّلت رسالة واضحة من السبسي إلى خصمه اللدود، راشد الغنوشي، الخارج لتوّه من مؤتمر حركته بانتصارات عدة؟ أو أنّ المصادفة متفق عليها بين «العجوزين» (السبسي والغنوشي)، وهي ترمز إلى بداية عهد الحكم الجديد بين أصحاب «المشروع التحديثي» والإسلاميين الذين أعلنوا في ختام مؤتمرهم العاشر الفصل بين «السياسي والدعوي»، وبالتالي أنجزوا ما يعتبرونه مصالحة مع تاريخهم بما يضمن لهم دوراً ريادياً في الحياة السياسية؟
ربما تذهب التساؤلات بعيداً، لكنها مشروعة في تونس، التي هي راهناً في طور أن ينقلها فعلياً قادة «حكمها الجديد» إلى مرحلة (خطيرة؟!)، عنوانها المصالحة السياسية والاقتصادية مع رموز النظام السابق، نظام بن علي نفسه.

بين «المقاولة» والذاكرة

تقول قمر بندانة في مقالها: إنّ «الذين يحنّون إلى البورقيبيّة والمقاولين السياسيين الجدد الذين ما انفكّوا يلمّعون صورة بورقيبة للاستثمار فيها، وكذلك الإسلاميون الذين أخذوا يقرّون بفضله على تونس، في خطابهم على الأقل، اتفق جميعهم على كلام منمّق للتغطية على غياب رؤية سياسيّة خاصّة بهم».
يتقاطع موقف بندانة مع ما يشرحه عبد الجليل بوقرة لـ»الأخبار»، وهو يقول: «لا أعتقد أن الانتساب إلى البورقيبية اليوم يكمن في نصب تماثيله في كل مكان ونشر صوره... بل لا تعني سوى الدفاع عن المنجز البورقيبي... ثمّ إن كانوا مخلصين فعلا لبورقيبة، فهم مطالبون اليوم بتجاوز أخطائه التي تمثّل نقطة سوداء في مساره، وخاصّة سياسته التسلّطية ورفضه لأيّ صوت معارض، وحتى الأصوات المستقلة، وتكفي مراجعة تاريخ القضاء التونسي لنقف على توظيف كل المحاكم القائمة بما فيها المحاكم العسكرية لإقصاء الخصوم، حتى وإن كانوا طلبة صغارا في السن جاهروا برأي مخالف في ساحات الجامعة، كما حصل مع الطلبة المنتمين إلى حركة (برسبكتيف) في آذار/مارس 1968 (الذين سيأمر بورقيبة باعتقالهم وإحالتهم على محكمة جديدة سمّيت محكمة أمن الدولة)... وهو الأمر الذي أثار استغراب المفكر الفرنسي، ميشال فوكو، الذي كان يدرّس آنذاك بالجامعة التونسية، فقارن بين ما حصل بتونس في آذار/مارس 68 وبين ما عرفته باريس من أحداث عنف في أيار/ماي 68 أجبرت ديغول على الاستنجاد بالجيش».
بما أنّ بناء الذاكرة هو فعلٌ يُستكمل في الزمن الحاضر، فقد تبدو خطورة ما يجري راهناً لجهة أنّ «هناك رافضين، هم بالتأكيد من مشارب سياسية متعددة: يسارية تقليدية، قومية، شبابية ثورية مثل حركة مانيش مسامح، وحتى إسلامية قاعدية. وتكتسي إعادة تنصيب التمثال في ساحة مركزية في العاصمة، شهدت ذروة الاحتجاج ضد نظام بن علي في 14 جانفي 2011، بعدا رمزيا مهماً، يحيل إلى محاولة إعادة الاعتبار إلى سردية تاريخية رسمية للدولة المابعد كولونيالية قائمة على إنكار مزدوج: إنكار الدور المحوري الذي أداه بورقيبة في إرساء نظام استبدادي ولد في خضم قمع دموي للحركة اليوسفية... وإحكام قبضته على المجتمع عبر شتى آليات الرقابة والتأطير والزجر. ثم، إنكار الذاكرة والتاريخ الجمعي باختزالهما من جديد في زعامة فردانية»، كما تقول لـ»الأخبار»، مديرة مكتب «منظمة انترناسيونال الرت بتونس»، ألفة لملوم.
إشكالات بناء ذاكرة جمعية في غياب توافق مجتمعي، لا تقف عند حدود تونس (عربياً). إذا نظرنا إلى مصر كمثال، يمكن الوقوف بشكل أوضح على العلاقة بين تغيّر الأزمنة السياسية والاستثمار والتلاعب في «أماكن الذاكرة». يقول المؤرخ المصري، خالد فهمي، لـ»الأخبار» مقدماً بعض النقاط التوضيحية: إنّ «أغلب تماثيل الزعماء في مصر لها قصص طريفة ودالة، ومن الملاحظ أن الكثير من تماثيل الزعماء المصريين في القاهرة قد تم نقلها من أماكنها: تمثال إبراهيم باشا (وهو أول تمثال حديث ينصب في مصر كلها)، جرى إنزاله من قاعدته أيام الثورة العرابية، وجرت محاولة لصهره لصنع مدافع من معدنه، إلا أن بعض المسؤولين نجحوا في إنقاذه وتخزينه، ثم بعد انتهاء الثورة جرى وضعه على قاعدة جديدة أكبر وفي مكان مختلف. تمثال طلعت حرب في منتصف القاهرة كان يحتل مكانه تمثال آخر لسليمان باشا، مؤسس الجيش الحديث. أما تمثال سليمان باشا فجرى تخزينه بعد ١٩٥٢ وهو الآن يقبع في ساحة المتحف الحربي في القلعة». يكمل خالد فهمي استعراضه لعدد من النقاط، فيمرّ على ميدان التحرير، الذي «كانت تحتل مركزه قاعدة رخامية إيطالية عندما كان الميدان يسمى ميدان الإسماعيلية (النصف الأول من القرن العشرين). وفي الأربعينيات، جرى التعاقد مع نحات إيطالي لنحت تمثال للخديوي إسماعيل ليوضع على القاعدة الرخامية. وبالفعل، صُنع التمثال وشُحن إلى مصر، لكنه وصل بعيد اندلاع انقلاب يوليو ١٩٥٢، وبالتالي ظلت القاعدة الرخامية خالية. أما التمثال نفسه فوضع أخيراً في الإسكندرية على قاعدة رخامية قبيحة غير متناسقة مع حجمه».
كذلك، يشرح المؤرخ المصري عن النصب التذكاري للجندي المجهول في الاسكندرية والذي «كان يحتل مكانه في السابق تمثال لنوبار باشا، أول رئيس وزراء لمصر (أرمني) في عهد الخديوي إسماعيل وخلفائه، وبعد انقلاب ١٩٥٢ جرت إزاحة التمثال لساحة مسرح سيد درويش في وسط المدينة»، لكن فهمي يختتم شرحه مستدركاً بأنّ «أهم قصة، في رأيي، عن تماثيل الزعماء في مصر، هي قصة عدم وجود تمثال لعبد الناصر في القاهرة. وهذا الغياب دليل على ما قصدت توضيحه: ما من توافق مجتمعي على تاريخنا الحديث، وغياب هذا التوافق هو ما ينعكس على التذبذب في اختيار التماثيل وأماكنها».




«المصلحة العليا يا صاحب الفخامة»

مما لا شك فيه أن الحبيب بورقيبة يمثّل «لحظة تأسيسية لا يمكن التغاضي عنها في تفسير ما تعيشه تونس الآن في صراعها المؤلم من أجل الحفاظ على شرف الاستثناء الديموقراطي»، كما يقول فؤاد غربالي. لكنْ، هناك خط بياني يجمع بين عهدي بورقيبة وبن علي، وفق ما يقول العربي شويخة واريك غوب: «إنها سنوات ولادة ونمو نظام استبدادي... وإذا كان النظام السياسي الذي أرساه بورقيبة يرتكز على مشروع مجتمعي تحديثي وعلى رغبة جامحة في استيلاد مواطن تونسي جديد، فإن النظام الذي يجسده بن علي كان يهدف أساساً إلى تحويل السلطة إلى أداة لمراكمة الثروات لفائدة (عصابة)». من جهة أخرى، فإنّ تداعيات إزاحة بورقيبة عن الحكم بانقلاب ما زالت تعتمل في مختلف مجالات الحياة التونسية، في وقت يزاحم فيه «الاستثمار السياسي» فعل صياغة الذاكرة الجمعية. في الصفحات الأولى من رواية «حارة السفهاء»، يقدّم الروائي، علي مصباح، صورة عن «زمن الانقلاب» (من دون ذكره): «تحرك تمثال الزعيم من موقعه، ودبت في الحصان البرونزي حياة غير متوقعة وإذا هو يمضي خبباً باتجاه البحر ليعود بالزعيم إلى الميناء الذي نزل فيه ذات سنة بعيدة ملوّحاً بذراع المنتصر»، وذلك بعدما غافل جنود أربعة الزعيم العجوز والمتعب، وأقدموا على خطفه من قصره «بلطف يمازجه شيء من الصرامة... مردّدين بإلحاح، وبلهجة قاتمة الجدية: المصلحة العليا للوطن، المصلحة العليا للوطن، يا صاحب الفخامة! وقد بدت له تلك العبارة غريبة شيئاً ما، أو على الأقل في غير محلها، فهو الذي ابتدعها».