تواصل القوى السياسية تعاملها مع ملف النفايات بخفّة رهيبة، على الرغم من كل ما أنتجته الأزمة الأخيرة. آخر مآثر السلطة، ممثلة بمجلس الإنماء والإعمار، هو دفتر الشروط الخاص لإنشاء مركز مؤقت للطمر الصحي قرب مصب نهر الغدير (كوستابرافا)، فقد جرى وضعه من دون مراعاة اي معايير، ولا سيما لجهة خطر التلوث البحري والخطر المحدق بالملاحة الجوية، فبدل أن يسعى مجلس الإنماء والإعمار إلى تصحيح أخطائه الكبيرة في مراقبة عمل شركة سوكلين وإصراره على دفع كامل مستحقاتها برغم تقصيرها الكبير في الفرز والمعالجة في مطمر الناعمة، اندفع باتجاه فضيحة أكبر هذه المرة.
الشروط لا تضمن فوز شركة مؤهلة للتعامل مع النفايات

قبل الشروع في حفر المطامر البديلة والطمر وغيرهما تبين من دفتر الشروط لمناقصة إنشاء مطمر الكوستابرافا، أن كل وعود السلطة لأهالي الشويفات والمتن الشمالي وغيرهما من مناطق المطامر الصحية كانت كذبا بكذب، اذ قدم مجلس الإنماء والإعمار للمتعهدين فرصة إنشاء مطامر غير صحية على طبق من فضة، فاقتصرت شروط التقدم إلى مناقصة "إنشاء المطامر الصحية المؤقتة" على أن يكون المتقدم إليها متعهدا (1) لبنانيا، (2) مؤهلا لدى مجلس الإنماء والإعمار لتنفيذ مشاريع في فئة الأعمال المدنية، بقيمة تتجاوز عشرين مليون دولار، (3) أن يكون لدى العارض حجم أعمال سنوي بمعدل خمسة عشر مليون دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة، و(4) أن يكون قد نفّذ خلال السنوات العشر الأخيرة مشاريع حماية بحرية تتجاوز قيمتها الإجمالية عشرين مليون دولار، من بينها مشروع واحد لا تقل قيمته عن عشرة ملايين دولار.
من يقرأ هذه الشروط يتخيل أن المطلوب هو ردم البحر، أو إنشاء مجرد "سنسول" إضافي أو حائط حماية بحرية، فيما المتعهد مكلف إنشاء مركز مؤقت للطمر الصحي. وهذا يتطلب وضع شروط واضحة لاختيار المتعهدين، لناحية امتلاكهم خبرة جدية في إنشاء المطامر الصحية التي تتطلب إنشاء (1) خلايا صحية، (2) سد بحري يضمن بشهادة الخبراء البيئيين حماية الثروة السمكية، (3) إنشاء محطة لتجميع عصارة النفايات وتكريرها، (4) إنشاء آلية "بيو غاز" لسحب الغاز من النفايات ومعالجته. و(5) تأمين إدارة يومية لنحو مليون طن من النفايات، يُفترض أن يكونوا تحت إشراف المتعهد لأكثر من أربعة أشهر. وهذا كله لم يتأمن وفق دفتر شروط المناقصة، وكأن السلطة الممثلة بمجلس الإنماء والإعمار تحرر المتعهدين من أي شروط وتدفعهم دفعاً باتجاه إنشاء مطامر غير صحية.
يفترض بحزب الطاشناق المعنيّ الأساسي بإنشاء مطمر برج حمود أن يبدأ من اليوم تحركاً ليضمن إطلاعه على كافة التفاصيل المتعلقة بإنشاء مطمر صحي، كي يضمن أن يكون المطمر صحياً لا مجرد مكب نفايات يتسبب بأزمة بيئية إضافية، أما القوى المسيطرة في الشويفات، فانشغلت مع الأسف عن هذه التفاصيل الصغيرة، التي لا يعلم المتابعون لعمل مجلس الإنماء والإعمار كيف يمكن استدراكها، في ظل تأكيد هؤلاء أن اضطرار المجلس إلى وضع المناقصة على نحو يلائم أحد المتعهدين دون غيره أمر بات شبه طبيعي، لكن كان يمكن مجلس الإنماء والإعمار أن يضيف بندا أو أكثر يلزم متعهده الأول التعاون مع شركة سواء لبنانية أو أجنبية، لديها خبرة في إنشاء المطامر لتأمين كل متطلبات المطمر الصحي. فالمتعهدون النافذون معروفون ولا أحد يتوقع تغييرهم أو نزول غيرهم بالباراشوت، لكن يمكن مجلس الإنماء والإعمار أن يضبط عملهم قليلاً. وإذا تعذر إلزامهم بشركاء لديهم خبرة تعامل مع النفايات، بحيث يهتم متعهد بردم البحر، ومتعهد آخر بشروط المطمر الصحي، كان يمكن إلزامهم بـ"ساب كونتراكتر". علماً أن مناقصات مجلس الإنماء والإعمار المتعلقة بإنشاء محطات تكرير، أو حتى بإنشاء جسر تفرض وجود أكثر من متخصص وعدة شركاء. وعليه لا أحد يفهم سبب التعامل مع إنشاء المطامر الصحية بهذه الخفة.
يبقى أن خطر إنشاء مطمر غير صحي في الكوستابرافا يتجاوز التهديدات البيئية ليصل حد تهديد سلامة الملاحة الجوية في مطار بيروت، لأن تداخل الغاز، في حال عدم تمديد الشبكات اللازمة خلال إنشاء المطمر، سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى إشعال حريق كبير يؤدي إلى إقفال المطار، إضافة إلى أن كمية كبيرة من النفايات ستتطاير باتجاه المدارج بحكم عدم امتلاك المتعهد المكلف إنشاء المطمر خبرة في التعامل مع النفايات، ولن يستطيع التعامل مع هجوم الطيور. فالنفايات ليست ردماً أو مجرد باطون يكفي جمعها ورميها في المطمر؛ الاختصاصيون يتحدثون عن فم للمطمر يتغير حجمه بين واحد وآخر، يفتح ويقفل وفق جدول محدد، إضافة إلى التجهيزات المتعلقة بسلامة الثروة السمكية وتسريب الغاز وتكرير العصارة والمعالجة اليومية للنفايات.