توحي الفتوى الأخيرة لحاخام اليهود الشرقيين في إسرائيل، إسحاق يوسف، التي حدد فيها مبرر وجود السكان الفلسطينيين في «أرض إسرائيل»، بأنها فتوى دينية مجبولة بموقف عنصري أطلق في ظرف سياسي يتماشى مع ميول الرأي العام الإسرائيلي، الذي ينحو إلى أقصى اليمين والعنصرية. الحاخام يوسف، لبّى طلب الإسرائيليين وتماهى مع رغباتهم، ولا يبدو أنه كان محرضاً أو حاثّاً على الحراك العنصري، بل عبّر عن اعتقاداته وحاول اللحاق بالموجود، عبر قوله إنه يجب على الفلسطينيين أن يكونوا «خدماً لليهود، وإلا يحظر عليهم كما على غيرهم من الأغيار (غير اليهود) العيش في هذه البلاد». العنصرية في إسرائيل ليست وليدة الساعة. فهي غير مرتبطة بتطورات سياسية أو أمنية، مع أن هذه التطورات مناسبة لإظهار مستواها المرتفع لدى الإسرائيليين. لكن العنصرية تتجذر في وجدانهم، وهي رديفة للوجود، ويبدأ تشربها منذ الصغر. كذلك إن المعطيات حول العنصرية الإسرائيلية لا تحصر في دراسة أو بحث، فضلاً عن مقالة أو تقرير صحافي، ما يدفع إلى الاقتصار على الإشارة إلى معطيات، في بحر أكبر من المعطيات، من شأنها فقط أن تضيء، أكثر، على واقع الإسرائيليين ونظرتهم إلى الآخرين.
وأهمية هذه الكتابات، شبه المهدورة في العالم العربي، وشبه المغفلة في العالم الغربي، أنها تعرّي رواية إسرائيل حول ديموقراطيتها وحقوق المواطنة لديها. وكما هو معروف، تؤكد إسرائيل في مقاربتها، تحديداً أمام الجمهور الغربي، أنها لا تميز بين «مواطنيها»، عرباً (فلسطينيو 48) كانوا أو يهوداً، شرقيين أو غربيين، فللجميع، كما تدعي، الحقوق والواجبات على حد سواء برعاية القانون والقضاء. وهذه الرواية تجد مسارب كثيرة لدى الوعي الغربي، إلى الحد الذي تُعمى معه الحقائق، ثم تفسر الأحداث والوقائع العنصرية، باعتبارها أعمالاً استثنائية، بلا تمأسس رسمي موجه.
في عام 1988، عمدت إسرائيل إلى حظر حزب «كاخ» بتهمة العنصرية، ضمن ظرف سياسي ورأي عام عالمي مضاد، استدعى ذلك، ولكنها في 2016، لم تعد تخجل من عنصريتها، ولا يكاد يخلو حزب إسرائيلي وازن وممثل في الكنيست، من العنصرية والتعبير عنها وممارستها، بل الافتخار بها، كي يتماهى أكثر مع عامة الجمهور الإسرائيلي، الذي يجنح في العقدين الأخيرين، تحديداً، إلى مزيد من التطرف.
والعنصرية وكراهية الآخر، تلقى رعاية حتى من القضاء الإسرائيلي، الأمر الذي يشير إلى تأصيل وتجذير ورعاية مؤسساتية، ثم قضائية. آخر عينات هذه الرعاية، وجدت تعبيرها في لائحة الاتهام ضد الجندي قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف بإعدام مباشر في الخليل، فرغم توثيق الجريمة هذه المرة بالصوت والصورة، بعدما توجه الجندي إلى الشهيد الذي كان ينزف وملقىً على الأرض بلا حراك تقريباً، ليطلق من رشاشه رصاصة على رأسه فيرديه. أما الاتهام الرسمي للنائب العام في القضاء الإسرائيلي، فهو التسبب في الموت غير المقصود! مقابل ذلك، عقوبة الفلسطيني تصل إلى السجن عشرين عاماً، في حال رشقه حجراً على عربة للجيش الإسرائيلي.
في الإطار العام، تعاني مجتمعات كثيرة من العنصرية. بل لا يكاد يخلو مجتمع من عنصرية، ولكنها في غالبية الحالات تبقى خفية وتنتشر في الهوامش مع خجل حولها والابتعاد عن الإقرار بها. أما تركيبة العنصرية في إسرائيل، فتحولت إلى واقع طبيعي، بل تحولت، لجهة السياسيين، إلى قمة النزاهة والصدق، أما النضال ضد العنصرية، فينظر إليه إسرائيلياً، كنوع من الخيانة. وعيّنة الجندي قاتل الشهيد الشريف، ترجمة حية لهذا الواقع، بعدما حظي بمكانة البطل في إسرائيل، لأنه تعبير وواجهة للذات، ومقاول منفذ للرغبات العنصرية لدى الإسرائيليين.
الروائي الإسرائيلي، سامي ميخائيل، يقول في كلمة ألقاها في جامعة حيفا، تحت عنوان «إسرائيل الدولة الأكثر عنصرية في العالم المتطور» (صحيفة «هآرتس» 26/06/2012): «دعونا لا نخدع أنفسنا، الثقافة والتربية في إسرائيل تبث مادة سامة ليست أقل من المادة السامة المتطرفة (للجماعات) الإسلامية، فنحن نطعم أطفالنا من رياض الأطفال حتى سنّ الشيخوخة، الكراهية والشك والاشمئزاز من الآخر، وتحديداً العرب والفلسطينيين». كذلك ينطلق تجذر العنصرية في إسرائيل أساساً وتمنهجاً، من المؤسسات التعليمية، كما يقرّ الروائي ميخائيل. بدءاً من دور الحضانة وصولاً إلى الجامعات.
في تحقيق طويل لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، نشر في 18/01/2011 تحت عنوان «التربية والتعليم والموت للعرب»، وردت عينات من سلوك التلاميذ والطلبة والنظرة إلى الآخر. أحد الطلاب في إحدى مدارس تل أبيب، ذكر في اختبار حر، وللمفارقة في مادة التربية المدنية، أن في نيته أن يلتحق عندما يكبر بوحدة «حرس الحدود»، «كي أكون قادراً على إطلاق النار على العرب، وقتل أكبر عدد منهم». ولدى قراءة الطالب هذه الجملة أمام زملائه، لاقى ترحيباً وتصفيقاً حاراً، في إشارة إلى القبول الجمعي لما ورد في كلامه.
يرد أيضاً في التقرير نفسه، نقلاً عن أساتذة يدرسون التربية المدنية وحقوق الإنسان، أن التلاميذ يضطرون إلى الاعتذار وطلب الصفح من زملائهم إذا أرادوا الحديث وإيراد أمثلة على العنصرية، مع التأكيد المسبق أن ما سيقولونه لا يعني أنهم يحبون العرب أو يكنون مشاعر طيبة تجاههم، لأن «العربي الجيد هو العربي الميت فقط».
أيضاً، فإن البحث السنوي الصادر عن «مركز أبحاث تربية السلام» في جامعة حيفا، وهو بحث متجدد المعطيات سنوياً، أورد تحت عنوان «النظرة إلى الآخر بين المراهقين العرب واليهود في إسرائيل»، معطيات «مقلقة»، خاصة أنها تتعلق بمسح معطيات لتلاميذ الصف العاشر من 22 مدرسة ثانوية في وسط إسرائيل وشمالها. ويرد في البحث أن «52 بالمئة من اليهود غير موافقين حتى على مجرد لقاء أي عربي، و56 بالمئة غير موافقين على اتخاذ صديق عربي، و61 بالمئة غير موافقين على الدراسة مع عربي، و74 بالمئة غير موافقين على ضيافة واستقبال عربي في المنازل اليهودية، و65 بالمئة غير موافقين على السكن في مبنى يضم عربياً». والمقصود بالعربي هنا، هو الفلسطيني من أراضي عام 1948، الذي يحوز «المواطنة» والجنسية الإسرائيلية.
تشير معطيات البحث أيضاً، إلى أن المراهقين من طلبة الثانويات في إسرائيل، ينظرون نظرة استعلاء إلى العربي (الفلسطيني) باعتباره أدنى منهم عرقياً، كذلك يشير 73 بالمئة إلى أن العربي بطبيعته «غبي»، و 84 بالمئة إلى أنه «وسخ مليء بالقذارة»، و 67 بالمئة إلى أنه «عنيف»، و 84 بالمئة إلى أنه «غير مثقف»، و85 بالمئة إلى أنه «لا يمكن الوثوق به».
مشاركة حاخامات في أعمال مافيا مبنية على مشروعية سرقة «الغير»

ويزيد مركز «مساواة» (حيفا) في تقريره السنوي لعام 2016، حول العنصرية الإسرائيلية، أن المؤسسات الحكومية (في إسرائيل) شريكة بعملها أو بتقاعسها في استفحال العنصرية، وترفض التحقيق في ملفات التحريض العنصري، بل تتقاعس في التحقيق في ملفات العنف العنصري وممارسات الشرطة الإسرائيلية. ويرد في التقرير حالات سجلت في 2015: 10 اقتراحات قانون عنصرية في الكنيست، و30 نشاطاً يستهدف الحد من الحرية السياسية لقيادات من فلسطينيي 1948، و38 موقفاً عنصرياً لقيادات إسرائيلية، و12 نشاطاً عنصرياً بهدف الإضرار بالأماكن المقدسة، و103 ملفات عنصرية من مؤسسات رسمية وأخرى اقتصادية خاصة وعامة، و123 عملاً عنصرياً نفذها (أفراد) إسرائيليون، و39 نشاطاً عنصرياً صدر عن رجال أمن، و31 حالة عنصرية في مؤسسات تعليمية وأكاديمية، و60 نشاطاً عنصرياً في ملاعب كرة القدم، و19 منشوراً عنصرياً في مواقع إعلامية... إلخ.
وكان من اللافت، قبل أيام، توجيه الشرطة الإسرائيلية اتهامات بجريمة تبييض الأموال ضد «مافيا حريديم». وصل عدد المتهين فيها إلى العشرات من الحاخامات، الذين يديرون شركات صيرفة في إسرائيل والخارج. المبلغ حُدد بمئات الملايين من الدولارت، وعلى مدى سنوات طويلة. كما يشمل النشاط الولايات المتحدة وفرنسا وهولندا... وإسرائيل طبعاً. لكن ما الذي يدفع رجال دين، ينظّرون للعفة، إلى الانشغال في تببيض أموال عائلات الجريمة المنظمة حول العالم؟ اتهام الحاخامات بتبييض الأموال ليس حادثة عابرة جديدة ومنفلتة من السياق العام. ففي 2009، سيق حاخامان اثنان مرموقان في إسرائيل إلى القضاء، بتهمة تبييض أموال المخدرات والجريمة والمنظمة. وآنذاك، كتبت «هآرتس» أن السبب هو النظرة الإسرائيلية الدينية إلى الغير، (الأغيار)، الذي تجوز سرقته والاستيلاء على أمواله.
وتساءلت الصحيفة: «كيف حدث أن اسمي شخصيتين مرموقتين مثل الحاخامين كاتسين وبن حايم، ربطا بتبييض أموال بالملايين، وبإدارة ساحة مافيا معقدة تدحرج مالاً أسود لتبييضه؟ ولماذا نتوجه بعيداً إلى أميركا؟ وكيف يجري ذلك في العالم الأصولي حيث يفترض بالرب أن يحوم حوله؟ كيف نتسامح مع الفضائح ومهربي المال والماس والرشى في أوساط المتدينين؟ وكيف نسوّغ ذلك فقهياً ودينياً؟ الجواب هو في جذور تاريخية، وتتعلق بمسألة سلب وسرقة الغير (غير اليهودي)... ويتبين أن ممارسة الحياة اليهودية حظي بآراء يوفرها التلمود، بأن حظر السرقة والسلب، يتعلق فقط باليهود، ولا يسري على الغير».
لكن، يثار تساؤل آخر، إذا كانت إسرائيل كذلك، فما السبب الذي يدفعها إلى «نشر غسيلها الوسخ» في العلن؟ الواقع أن الإسرائيليين وصلوا إلى الحد الذي باتت فيه العنصرية نفسها، مدعاة للافتخار. كلما كنت يمينياً أكثر ومتطرفاً أكثر، وعنصرياً أكثر، ستصير شخصية قادرة ومقتدرة ومتمسكة بالمبادئ، بل يحق لك القيادة والأمرة.
في الأمس القريب، صدر عن رئيس «المعسكر الصهيوني»، رئيس المعارضة في الكنيست، إسحاق هرتسوغ، الذي توجه إلى أعضاء حزبه (حزب «العمل» سابقاً)، التشديد على ضرورة معالجة تراجع تأييد الإسرائيليين لحزبه، لافتاً إلى أن معالجة ذلك هي «في منع الشعور القائم لدى الإسرائيليين، بأننا محبون للعرب (فلسطينيو 48)» (هآرتس 19/04/2016).




«نعم، نحن عنصريون»

«95 بالمئة من الإسرائيليين يقرّون بوجود العنصرية في إسرائيل»، هذه النتيجة وردت في استطلاع للرأي، نظمته مؤسسات مناهضة للعنصرية بالتعاون مع «صندوق فريدريش إيبرت» (الألماني)، بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنصرية (17/03/2014). تركت أسئلة الاستطلاع للإسرائيليين تحديد الجهة/ الجهات، الإثنية أو العرقية أو الدينية، التي تعاني العنصرية: 79 بالمئة حددوا الإثيوبيين (الفلاشا)، و68 بالمئة حددوا فلسطينيي أراضي 1948، و41.8 بالمئة حددوا الشريحة المتدينة في إسرائيل (الحريديم)، و34 بالمئة حددوا المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق، و4.4 بالمئة فقط، رفضوا الإقرار بوجود أي عنصرية في إسرائيل. كذلك أقر الإسرائيليون، بأغلبية 70.2 بالمئة أن الحكومة الإسرائيلية تقف بلا حراك أو دون المطلوب، للحد من العنصرية في إسرائيل، فيما رأى 19.5 بالمئة أن الحكومة تشجع على العنصرية، لكن 10.3 رأوا أنها تعمل على محاربة العنصرية.