حماسة الحزبيين بلغت ذروتها في شوارع زحلة: مواكب سيارة وكثافة مندوبين ورايات حزبية ورقص في الشوارع. أما غير الحزبيين فواصلوا التفرج طوال النهار "من بعيد لبعيد"، من دون إظهار أية مبالاة بكل ما يحصل حولهم. حتى من كبد نفسه عناء النزول إلى مركز الاقتراع تحت منزله، تبسم لكل المندوبين من دون استثناء، دخل واقترع، ثم غادر من دون أن تكتشف الماكينات لمن اقترع. العمل الانتخابيّ الاستثنائي حققته ماكينة النائب نقولا فتوش التي أوحت طوال اليوم الانتخابيّ وقبله بأنها تلعب في ملعب الأحزاب قبل أن تبين نتائج الأقلام الكاثوليكية أخذها الأصوات من طريق الكتلة الشعبية لا أحد آخر. ولا شك أن فتوش اليوم هو غير فتوش أول من أمس على مستويات كثيرة. وقد حصدت ماكينته: أولاً أصوات من يعرفون بالمجنسين الذين اعتادوا القدوم في الاستحقاقات الانتخابية السابقة لانتخاب الكتائب والقوات اللبنانية، علماً بأن مناصري القوات والكتائب وبعض العونيين كانوا يطالبون بالاعتداء على هؤلاء الناخبين ومنعهم بكل الوسائل من الوصول إلى مراكز الاقتراع، مظهرين ميدانياً سلوكاً عدائياً ومهيناً. وتمكن فتوش بفضل تأييد هؤلاء من تحقيق خرق وسط المقترعين من الطائفة السنية. ثانياً أصوات المجموعة الناخبة الصغيرة التي تتسابق الماكينات (باستثناء التيار الوطني) على رشوتها منذ أكثر من سبعين عاماً، لا منذ عام أو عامين، علماً بأن نسبة هؤلاء لا تتجاوز أبداً عشرة بالمئة. ثالثاً، حصدت ماكينة فتوش غالبية أصوات حركة أمل التي اقترعت للائحة فتوش فقط. رابعاً، حصدت هذه الماكينة أصوات حزب الله أيضاً الذي أثبت عبر دعمه ثمانية من لائحة فتوش وجميع المرشحين العونيين وقوفه على مسافة واحدة من جميع حلفائه الزحليين. خامساً، استقطبت هذه الماكينة كل الموالين لآل فتوش وكل من يدينون لهم بخدمة من دون استثناء، سواء في زحلة أو في بيروت أو في بلدان الاغتراب. وخلاصة النتيجة التي حققها فتوش تفيد بعدم قدرة القوى السياسية على التعامل أكثر معه بوصفه مجرد نائب زحليّ حليف لحزب الله وحركة أمل.
خسرت سكاف أصوات حركة أمل لأنها رفضت تبني مرشح الحركة على لائحتها

ماكينة سكاف تخوض منذ أسابيع عدداً كبيراً من التحديات: تحدي إثبات السيدة ميريام سكاف نفسها كرئيسة للكتلة الشعبية في أول استحقاق انتخابي بعد أشهر قليلة على وفاة الوزير الياس سكاف، مع كل ما يستلزم ذلك من تنازلات داخلية وتشدد خارجيّ. وتحدي شد العصب الكاثوليكي في ظل محاولة الثنائية المسيحية شد العصب الماروني، رغم الخلاف بين الكتلة الشعبية ومطران زحلة للكاثوليك. وتحدي الوقوف في وجه الثلاثية المسيحية مع كل ما يستتبع ذلك من تخوين وتحريض وغيرهما. وتحدي إيجاد صدى زحليّ لخطاب الكتلة عن "زحلة أولاً". وأتت النتائج لتبين فشل "استراتيجية المشكل مع الجميع". ورغم نجاح الكتلة في مزاحمة الأحزاب إعلامياً وفي الشارع بالأعلام والأغاني والمندوبين، فإن ماكينة العائلات التقليدية أظهرت ضعفاً مقارنة مع ماكينة الأحزاب المتطورة، سواء في إدارة العمل بعيداً عن الأنظار أو في معرفة النتائج. وكانت الكتلة تعتقد بأنها تفوقت وسط الناخبين البيارتة، محتفلة عند الظهيرة بتنخيب كل من يفترض بمندوبيها تنخيبهم. ولا شك أن الخسارة المدوية التي منيت بها الكتلة ستخلط أوراقاً كثيرة في علاقتها مع مختلف الأفرقاء السياسيين داخل زحلة وخارجها، وخصوصاً أنها ــ في أصغر مثال ــ تبنت مرشح تيار المستقبل على لائحتها باعتباره يمثل عائلته، فيما رفضت تبني مرشح حركة أمل رغم قدرتها على نسبته للعائلات أيضاً، فخسرت بذلك أصوات حركة أمل. إضافة إلى وجود خلافات صغيرة كثيرة كان بإمكان رئيسة الكتلة معالجتها لاستيعاب أكبر عدد من الناخبين. ولا شك أن تصويت الناخبين السنة والشيعة والأرثوذكس وحتى الموارنة يمكن فهمه، لكن ما لا يمكن فهمه ويفترض بالكتلة التمعن كثيراً بأسبابه هو تصويت الناخبين الكاثوليك. في المقابل، نجحت "الكتلة" في تجاوز التحريض المذهبي عليها ولم تتوقف أبداً عند محاولات نواب القوات تصوير أي تقدم للكتلة عليهم بأنه نتيجة دعم حزب الله، في ظل وعي الناخبين الواضح لتوزيع حزب الله أصواته بالتساوي على الكتل الثلاث، فيما صبت أصوات تيار المستقبل للائحة سكاف من دون أن يستفز ذلك القواتيين علانية أقله.
ماكينة الأحزاب واجهت مجموعة تحديات هي الأخرى تبدأ بتوحيد جهود القوات والعونيين أولاً، وقبول العونيين بشروط رئيس اللائحة أسعد زغيب ثانياً، وتجاوز افتقادهم الغطاء الكاثوليكي ثالثاً، ورفع نسبة التصويت الماروني رابعاً، والاستفادة من ثروات حشد رجال الأعمال المؤيدين للقوات والعونيين لمواجهة مال سكاف ــ فتوش خامساً، وتجاوز فخ التشطيب سادساً. ويمكن القول إن الأحزاب نجحت في تجاوز جميع هذه التحديات، في ظل عمل مميز للفريق الإعلامي على مدار الدقيقة لرفع منسوب التعبئة بكل الوسائل. وقد أوحت ماكينة الأحزاب بأنها ترى المال السياسي ومن يوصفون بالمجنسين لأول مرة في زحلة، فرفعوا منسوب التعبئة في أوساط الزحليين لدحر المال السياسي ومواجهة خطر "الأصوات الغريبة". أما الأهم من هذا كله، فهو إثبات زحلة أن الثنائية المسيحية تحظى بتأييد شعبيّ عارم، لكن هادئ جداً. وكان يصعب خلال اليوم الانتخابي اكتشاف ما يحصل حقيقة في صناديق الاقتراع، لكن سرعان ما بيّن الفرز أن مقام سيدة زحلة برم أمس باتجاه الرابية ومعراب، كما فعلت سيدة حريصا حين التفتت صوب ساحة جونية حيث كان الخطيب الكتائبي لويس أبو شرف يناديها لتناصر الحلف الثلاثي. إلا أن الأهم من هذا كله هو رصد حالة القوات في شوارع زحلة أمس. فمن مركز اقتراع إلى آخر تكرر المشهد نفسه: صبيان لا تتجاوز أعمارهم عشر سنوات يلوحون بأعلام القوات اللبنانية، وفتيات يرتدين "تي شرتات" برتقالية ويعصبن رؤوسهن بأعلام القوات. وبين مركز وآخر بضعة عونيين وقوات يجتمعون حول نرجيلة أو يرقصون على أغاني القوات، فيما صور رئيس حزب القوات سمير جعجع تزين مكاتب التيار الوطني الحر. وتحت الخيم الانتخابية كان هناك دائماً "مغوار قواتيّ" أو أكثر يروي بعضلاته المفتولة لشباب عونيين مذهولين فصولاً من بطولاته في الحرب، مستفسراً عن واحد أو أكثر من أفراد عائلتهم كان يقاتل معهم. وهذا بمعزل عن نتيجة الانتخابات نصر قواتيّ كبير يبرر إصرار جعجع على إسقاط فرص التوافق وخوض معركة تعرف ماكينته سلفاً نتيجتها. فخلال سنوات، كان النفور العونيّ من القوات يحول دون تسرب أعداد عونية مهمة باتجاه القوات، إلا أن مشهد أمس بيّن انكسار جدران الجليد بين هذين الحزبين، وفي ظل الهشاشة التنظيمية العونية مقارنة بالقوات وعدم امتلاك العونيين قدرات القوات المالية والإعلامية وعدم امتلاكهم في خطابهم أي تفاصيل جاذبة للمراهقين والشباب، كان يمكن أمس ملاحظة ملامح أولوية لما ستحمله السنوات المقبلة. وخلاصة الأسبوعين الزحليين الطويلين تفيد بتوجيه القوات اللبنانية صفعة قوية لتيار المستقبل الذي حوّل الرد على اتفاق عون ــ جعجع بخلط الأوراق الزحلية. وقد أثبتت القوات نفسها مرجعية زحلية أولى يفترض بسكاف وفتوش أن يتجاوزا كل خلافاتهما ويوحدا جهودهما ويبدآ التنسيق مع كل أصدقائهما المشتركين في حال رغبا بإبعاد شبحها من فوق مدينتهما.