لم يمثل عبد المنعم يوسف، أمس، امام قاضي التحقيق في جبل لبنان رامي عبد الله. تجاهل موعد الجلسة المحدد لاستكمال التحقيقات في ملف "الغوغل كاش" (ملف متفرّع من فضيحة الانترنت غير الشرعي). أخذ إجازة وسافر الى خارج البلاد ليتفادى التبليغ. بحسب مطلعين، هناك خشية من ان يذهب مسار التحقيقات في هذا الملف الى أبعد من استدعاء يوسف (ومعه بعض المديرين في هيئة "اوجيرو") بصفة "شاهد"، فالرجل "مسؤول" في مطلق الاحوال، وهو يشغل حالياً، وبصورة غير قانونية، ثلاثة مواقع رئيسة في هيكلية ادارة قطاع الاتصالات والتحكم بتوزيع ريوعه الضخمة، هي: المدير العام للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، رئيس مجلس إدارة هيئة اوجيرو، ومديرها العام. الموقع الأول يشغله بالأصالة، فيما ولايته منتهية في "أوجيرو" منذ عام 2005. المصالح المتقاطعة فرضت يوسف قابضاً على هذه المواقع، على الرغم من تصادمه مع وزراء الاتصالات المتعاقبين وقوى سياسية نافذة. أمّن رئيس كتلة المستقبل النيابية فؤاد السنيورة الحماية المباشرة له، وتميّز يوسف باعتداده الشديد بنفسه وقدرته الفائقة على المواربة والمواجهة... في الحصيلة، ترتّبت نتائج كارثية على قطاع الاتصالات والاقتصاد عموماً، فخدمات الانترنت شبه مدمّرة الآن وقدرات الهاتف الثابت معطّلة أيضاً.فضيحة "الانترنت غير الشرعي" ليست إلا التعبير المكشوف عن هذه النتائج، أمّا التعبير المادي الملموس فيكمن في تراجع إيرادات الخزينة العامّة من الاتصالات (الضرائب وشبه الضرائب المفروضة في السعر النهائي للمستهلك) بقيمة تصل الى 800 مليون دولار في عام 2015، إذ أظهرت إحصاءات المالية العامة الصادرة عن وزارة المال أن هذه الإيرادات تراجعت من أكثر من مليارين دولار في عام 2014 الى نحو 1.2 مليار دولار في العام الماضي.

تهريب سعات دولية من "اوجيرو"

ما كُشف من هذه الفضيحة هو أن هناك موزّعين شرعيين للانترنت في لبنان، ركبوا هوائيات وأجهزة أخرى في عدد من المناطق لاستقبال سعات دولية مهرّبة من قبرص واستعمالها لتوزيع خدمات الانترنت على المشتركين. يقول وزير الاتصالات بطرس حرب في مؤتمر صحافي ان "السعة الإجمالية المقدرة لهذه المعابر الدولية غير الشرعية بلغت 40 جيغابيت بالثانية، أي ما يعادل 600,000 خط هاتفي دولي، ما يعرضنا لخسارة مالية، تبلغ، بالنظر للمعدات التي ضبطناها لغاية الآن فقط، ما يعادل خمسة ملايين دولار شهريا".
إلا أن مطلعين على هذا الملف، يشيرون الى أن فصلاً من فصول الفضيحة يكمن في كيفية احتساب الخسائر (او ارباح المستفيدين من هذه العملية)، اذ جرى تفكيك الهوائيات والأجهزة، التي كانت تستقبل الانترنت غير الشرعي، من دون تتبع الأثر الذي يكشف حجم وقدرة الشبكات. يقول مطلعون إن "إخفاء هذه المعلومات من شأنه التعمية على وقائع تقنية لازمة لمعرفة حقيقة الانترنت غير الشرعي في لبنان ومصادره وحجمه".
بحسب خبراء تقنيين، فإن الثابت أن الهوائيات التي استُعملت في استقبال الانترنت غير الشرعي مصدرها شركتا Trango و ceragone (وهي شركة اسرائيلية)، وأن قدرة هذه الهوائيات هي محدودة جداً، ولا تزيد عن 600 MBs لكل وصلة من الوصلات، أي أن قدرة الوصلات الأربع مع قبرص لا تزيد عن 2 GBs. بعض الخبراء يرون أن قدرة الوصلات قد تصل إلى 6 GBs.
إذاً، كيف يمكن أن يحصل الموزعون في لبنان على انترنت بقدرة 40 Gbs كما كشف الوزير حرب في مؤتمره الصحافي؟ الأمر مثير للاهتمام. ما هو مصدر هذه القدرة الهائلة التي توازي 25٪ من القدرة الموزّعة رسمياً على كل لبنان، والتي توازي 150 GBs؟
يشرح خبراء أن هناك مسارين فقط للوصول الى هذه القدرة: إما تأتي من أوجيرو، أي أنها "مهرّبة" من أوجيرو بشكل غير شرعي، وإما هناك مبالغة كبيرة في موضوع الانترنت غير الشرعي. ما يعزّز الاحتمال الأول هو وجود عشرات آلاف المشتركين الذين انقطعت عنهم خدمة الانترنت بمجرد الكشف عن فضيحة الانترنت غير الشرعي. يقال إن شركة واحدة كان لديها أكثر من ١٢٥ ألف مشترك. هذا يعني أن موزعي الانترنت كانوا يحصلون على السعات الدولية من ثلاث مصادر: قبرص، أوجيرو بطريقة شرعية، وأوجيرو بطريقة غير شرعية.
لكن هل يكمن الحصول على سعات دولية بعد اختلاسها من أوجيرو؟ الأمر بسيط، وفق مطلعين، إذ أن "الأمر يتطلب أن يكون لديك مسار لعبور الانترنت بين نقط التوزيع الأساسية لدى أوجيرو وبين نقط توزيع ثانوية. لكن الأهم من ذلك كلّه هو أن يكون لدى لبنان سعات دولية متاحة للاستعمال".

تعطيل الفايبر اوبتك

توضح مصادر في وزارة الاتصالات، أن حصّة لبنان من كابل IMEWE بلغت 700 Gbs، في حين ان السعات التي توزّعها أوجيرو بصورة شرعية هي بقدرة 150 Gbs أي ما يوازي 21٪ فقط من القدرة المتاحة… لماذا لا تقوم أوجيرو بإغراق لبنان بالسعات الدولية؟ لماذا لا تستعمل شبكة الفايبر اوبتيك المنجزة منذ فترة طويلة للقيام بذلك؟ ولماذا يرفض يوسف تسلم هذه الشبكة وتشغيلها؟ وما علاقة كل ذلك بما يسمى "فضيحة الانترنت غير الشرعي"؟
لهذا الأمر قصّة أخرى. فمشروع الفايبر أوبتيك، الذي يمتد على 4000 كيلومتر بات جاهزاً للاستعمال، لكن يوسف يرفض ربط التجهيزات المكملة لهذا المشروع بسنترالات الوزارة. الفايبر أوبتيك هو الطبقة الأولى من البنية التحتية للانترنت، فهناك مشروع آخر مكمل هو بوابة الانترنت ويتضمن تجهيزات بقيمة ٣ ملايين دولار اشترتها الوزارة ولا تزال في مستودعاتها يأكلها الغبار. كذلك هناك طبقة ثالثة تتعلق بتجهيزات من شأنها تحويل خطوط الانترنت إلى "أوتوسترادات"، وقد اشترتها الوزارة أيضاً من شركة اريكسون، لكن يوسف طلب إعادتها إلى مصدرها. وهناك مشروع لشراء معدات كشف التشويش، إلا ان عبد المنعم يوسف كان له دور محوري مع الوزير حرب في الإطاحة بهذا المشروع أيضاً.
هذه الوقائع تكفي لترتيب المسؤولية على يوسف وادارته بمعزل عن تورطه المباشر او غير المباشر في "الفضيحة"، فما قام به يوسف ويقوم به جعل الجامعة الأميركية في بيروت، على سبيل المثال لا الحصر، عاجزة عن استثمار شبكة الفايبر أوبتيك الداخلية، فهذه الشبكة غير ذات قيمة طالما أن مصدر الانترنت الاساسي هو على الشبكة العامة القائمة، إذ لا يمكن فتح السرعات إلا بعد استعمال شبكة الفايبر اوبتيك العامة، التي يمتنع يوسف عن تشغيلها. ثمة أمثلة اخرى عن الضرر المباشر، فالمصارف تضطر الى استعمال الهوائيات بين فرع وفرع وبين موقع وآخر، وهذا الأمر يأخذ وقتاً فيما يكون مشكوفاً على مخاطر التشويش والمخاطر الطبيعية، وبالتالي فإن استعمال شبكة الفايبر أوبتيك يتيح إجراء أي معاملة بسرعة قياسية ليس بين نقطتين في لبنان، بل مع الخارج أيضاً. وهذا الأمر ينسحب على المستشفيات وعلى المؤسسات الكبيرة والجامعات… "إنها ثورة التكنولوجيا التي يخنقها عبد المنعم يوسف"، يعلّق مصدر مطلع.

قصّة الـ"غوغل كاش"

من هذه النقطة يمكن فهم قصّة الـ"غوغل كاش". فالصراع بدأ بين موزّعي الانترنت الكبار منهم والصغار على خلفية الحصول على غوغل كاش. هو عبارة عن مخزن للروابط الأكثر استعمالاً عن طريق غوغل، وهو يدخل إلى لبنان من دون أي تسجيل ولا رخصة مسبقة ولا لاحقة. تضع شركة غوغل شروطاً تقنية معينة لمنح الموزعين هذا المخزن، الذي يتيح لكل موزّع تقليص استعمال السعات الدولية ما بين ٤٠٪ و٦٠٪، أي أنه يسبب خسائر للخزينة ولا يستفيد منه المستهلك الذي يدفع الاشتراك بشكل عادي، بل يفيد الموزّع حصراً الذي لا يزال يستأجر السعة الدولية بـ ٢٤٠ دولاراً من أوجيرو، ويحصل عليها بسعر يتراوح بين ٢٠ دولاراً و٤٠ دولاراً من قبرص.
الصراع للحصول على غوغل كاش هو ما فجّر فضيحة الانترنت الحالية. هذا المخزن حصلت عليه أوجيرو أولاً، ثم صندوق بيريتيك، ثم موزعو الانترنت الكبار، الذين حصلوا عليه تحت اسم "BIX"، الى ان طلب صغار موزعي الانترنت الاستفادة من هذا المخزن قبل أن ينفجر الخلاف في ما بينهم على استقدام مخزن خاص بهم، ويدفع أحدهم إلى تقديم شكوى لدى وزارة الاتصالات سرعان ما تحوّلت إلى فضيحة الانترنت غير الشرعي. الصراع بين الموزعين الصغار على غوغل كاش هو صراع على الأرباح الإضافية التي يحققها هذا المخزن وشروط الحصول عليه من غوغل المحصورة بأن يكون لدى الموزّع خلال سنة أكثر من 1GBS. بعض الموزعين لم يكن لديهم هذا الكمّ، فاتفقوا على الاستفادة الجماعية، لكن بعضهم غدر بالبعض الآخر ثم تدخل يوسف وشبارو لتقوية واحد على الثاني… فانتهى الأمر بفضيحة.
////
هناك مؤشرات على وجود تهريب للسعات الدولية من "اوجيرو" نفسها
صراع على الأرباح الإضافية المحققة من "غوغل كاش" هو ما فجر الفضيحة




أوجيرو للسياحة

تتساءل مصادر مطلعة عن حاجة هيئة أوجيرو لأكثر من 700 سيارة من نوع تيدا، مشيرة إلى أن بعض زوجات المديرين في الهيئة مسجلات على لوائح الرواتب بصفة مياومات، ثم يخصص لهن سيارات وسائقين أيضاً... هذا الإنفاق ليس إلا «وجّ الصحارة». ففي عام 2009 أجرت هيئة أوجيرو مناقصة لشراء تجهيزات خاصة بتوزيع داتا الانترنت. فازت شركة ليباتيل بصفقة توريد 13900 آلة لتوزيع الداتا، ثم حصلت بموافقة عبد المنعم يوسف وتوفيق شبارو على عقود بالتراضي متواصلة لتوريد أكثر من 566 ألف موزّع للداتا بالأسعار التي كانت رائجة في عام 2009. يومها لم يكن السعر الرائج يقلّ عن 100 دولار، فيما هو اليوم أقل من 10 دولارات.
مالك هذه الشركة بيار ضباعي على علاقة صداقة قويّة مع توفيق شبارو، وهذا الأخير اشترى شقّة لا تقل قيمتها عن مليوني دولار في مبنى 2020 في منطقة رأس بيروت.