يبدو الكاتب اليمني حبيب سروري (1956) بذاكرة متينة وهو يعاود شغله السردي، مستنداً إلى أيّام الشباب الأولى في مدينة عدن الجنوبية قبل أن يتركها عام 1976 للإقامة في فرنسا. يظهر صاحب «طائر الخراب» من طينة المهاجرين الذين لم يتركوا للبلاد التي أقاموا فيها فرصة كي تأخذهم إلى جهتها، فبقوا مأسورين بتفاصيل بلدانهم الأصلية والحياة التي كانت لهم داخل تضاريسها الاجتماعية.لعل حالة الأسر بتلك الحياة القديمة ستبدو لنا ظاهرة في قدرات صاحب «أروى» وهو يستجر في تفاصيلها عناصر من زمن مضى ويعيد سرده مُعتمداً على ذاكرة نجح في تربيتها جيداً. في روايته الجديدة «ابنة سوسلوف» (دار الساقي) نجد أستاذ الحاسوب وقد عاد لاستثمار حياته الماضية. سنرى الفتى العدني وهو يستعد في مرحلة الدراسة الثانوية وتحوّلاتها النفسية والجسدية والجنسية قبل الذهاب لمنحة دراسية إلى فرنسا حيث سيصبح أستاذاً في أحد مراكزها البحثية. سيبقى اليمن في باله وسوف يواصل الكتابة عن أحواله في مقالات يرسلها إلى بعض الجرائد هناك. سيكون على صلة وثيقة بشقيقته التي صارت طبيبة في صنعاء. تمنحه فرنسا فرصة الذهاب بشكل سنوي في رحلات إلى البلاد الأصليّة بغرض التنسيق بين جامعات فولتير والجامعات اليمنيّة من أجل اختيار عدد من الطلبة لابتعاثهم بعد اختبارهم للدراسة هناك.

خلال ذلك، تحدث ثورات الربيع العربي واحتكار الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة لها. سنرى توكل كرمان وهي تصرخ «كلما زدنا شهيد يا علي اهتز عرشك». سنقابل «جامعة الإيمان» الأصولية وشيخها المعروف بادعائه اختراع علاج الإيدز، إضافة إلى التظاهرات التي كان يديرها عبر قطاعه النسائي في الجامعة نفسها وتخرج لمناهضة إقرار قانون يسمح بتحديد سنّ الزواج بين الفتيات! لكن لن يكون اسم شيخ الجامعة تلك واضحاً بسبب تحوير اسمه ومكان دراسته الأول الذي سيكون بيروت بدلاً من القاهرة، في حين تأتي السيرة السيئة لعلي عبد الله صالح منثورة على مساحات واسعة من العمل.
لكن أين «ابنة سوسلوف»؟ لا بأس هنا من جلبها مِن زمن حكم الاشتراكي، وكان اسمها فاتن وهي ابنة لقيادي في الحزب، درس الماركسية اللينينية في موسكو وعاد ليرأس معهداً عالياً للعلوم الماركسية ويحمل لقب «سوسلوف الحزب» نسبة إلى اسم قيادي في الحزب الشيوعي السوفياتي حينها. ويقوم السارد بابتكار لعبة تأتي على وزن طاقية الإخفاء، لنرى فاتن وقد انتقلت من الجنوب المَدني إلى الشمال المُتخلّف وقد صارت داعية سلَفية واسمها أمة الرحمن. ليس هذا فقط، بل متزوجة بشابّ سلَفي مثلها. ومن أجل إظهار هذه البيئة السلَفية بأقبح صورة، لا بأس من جعل الفتاة على علاقة جنسية مع والد زوجها، وهو رجل الدين الأصولي الأشهر في المدينة.
ومن لعبة التخفي إلى لعبة المصادفات الكثيرة التي سنجدها عندما يلتقي الراوي الفرنكوفوني صدفة بأمة الرحمن في بيت شقيقته الطبيبة. وسيلقاها أيضاً بالصدفة أمام الفندق الذي يسكنه. كأن الراوي يريد هنا أن يصل إلى غاية ما عبر حرق المراحل التي يقوم بها لبلوغ... السرير. سنكون حينها في رحلة استعراضات جسدية وارتفاع لصوت الرغبة حتى نهاية العمل، وسيبدو الراوي كأنما يستخدم الجنس كأداة انتقامية، أو: «أنتم أخذتم علينا السلطة ونحن سنأخذ منكم ما نشاء».
واللافت أنّ الراوي لا يحكي عن أمة الرحمن في سياق الجنس إلا بوصفها فتاة شمالية قدرت سمات القبائل المتوحشة أن تنطبع عليها. الحكي عنها في فقرات استذكار ماضيها الجنوبي سينطبع بنبرة مختلفة تسير باتجاه تلك الأيّام السعيدة. سنقرأ عن عَدن الجميلة وصنعاء «المدينة الجدباء» التي يعترف السارد بأنه لا يكرهها فقط بل «أنا أحتقرها». لا يتعلّق الأمر بهذه الرواية فقط، بل بعمله السابق «أروى»، يقول أحد الساردين إنّ رجال عدن يبدون كبضاعة مرغوبة لدى الشماليات و»لا سيما أن للعدني في أعين بنات صنعاء موقعاً متميزاً» حيث ثقافته المدنية تختلف عن ثقافة القبائل. يقول سروري دوماً إنه لا علاقة له بما يأتي على لسان السارد وشخصيات أعماله. لكن هذا الكلام الذي يخرج منهم هو الكلام نفسه الذي نقع عليه في المقالات التي يكتبها وعلى صفحته الشخصية على الفايسبوك. هو يطرح المقارنات الدائمة بين الشمالي المتخلّف والجنوبي المَدني سليل الثقافة التي تركها له الاحتلال البريطاني في عدن وتبدو أحياناً بأنها اختلافات عرقية لا ثقافية بين الطرفين.
والحال هذه، إلى أيّ حد يمكن لرواية أن تبدو منطقية وهي تأتي كل مرة على شخصيات وساردين يحمل جميعهم أفكاراً سلبية ثابتة تجاه كل شمالي كأن على كل أهل الشمال أن يتحمّلوا نتائج الجرائم الذي فعلها نظام صالح في حق أهل الجنوب! مع ذلك، لقد رأينا سيرة الكاتب في «ابنة سوسلوف» لكن أين الرواية؟