لا يُحسد عملاء «ميليشا أنطوان لحد» على صدمة انسحاب قوات العدو الإسرائيلي في 22 أيار 2000 بشكل سريع من الجنوب، وتركهم وجهاً لوجه مع رجال المقاومة وأبناء قراهم. ومع أن أمر الانسحاب كان يلوح في دوائر قرار كيان العدو قبل ذلك بأشهر، إلّا أن الفرار الإسرائيلي جاء مفاجئاً للعملاء، فاستحكم الإنكار على عقولهم في أيام وساعات ما قبل 25 أيار 2000.
وعلى ما يروي رجال المقاومة في تلك المرحلة، فإن العدد الأكبر من العملاء بقي في مواقعه وثكناته حتى دخلها المقاومون ونادوا عليهم بأسمائهم، فرموا أسلحتهم وهم لا يصدّقون أن «إسرائيل» خذلتهم وانسحبت، وجنودها خلف الجدار الفاصل مع فلسطين المحتلة يتلون صلوات الشكر على خروجهم قطعة واحدة من المستنقع اللبناني.
لم تكن «إسرائيل» حينها، المنسحبة والمهزومة، تنتظر أن يتفكّك «جيش لحد» بهذا الشكل المدوّي، ويستسلم عناصره من دون دماء مع المقاومة. بل كان المرتجى أن تتصرّف المقاومة بعقلية الانتقام، فتحاكم العملاء على جرائمهم في الميدان وتنتقم من عائلاتهم، كما تفعل كل المقاومات في العالم، ليرسم الحقد بين أبناء قرى الجنوب معالم ما بعد الانسحاب. لكن على العكس، يؤكّد المقاومون الذين واكبوا انجاز التحرير، أن «المقاومة بكلّ فصائلها لم تسقط في حقل الألغام الإسرائيلي، ودخلت القرى من الناقورة إلى حاصبيا بعقلية الاستيعاب». ويقول أحد رجال المقاومة وهو أسير محرّر: «تركنا الأمر بيد الدولة والقضاء، ليخضع هؤلاء للعقاب المناسب!» ساخراً من الأحكام المخفّفة التي صدرت بحقّ العملاء، وتراوحت بين أشهر وخمسة أعوام سجن.
على الرغم من الجراح، وسنين الأسر الطويلة والقتل والتعذيب والتهجير والإبعاد وتفجير البيوت ومصادرة الأملاك وما لحق بأهالي الجنوب الذين عبّروا عن رفضهم الاحتلال، يميّز المقاومون بين «صغار العملاء والعملاء الأمنيين وقيادات ميليشيا لحد، الذين صبغ الدم أكفهم». فكثيرون من أبناء الجنوب، وقعوا ضحيّة غياب الانتماء الوطني، والانفصام اللبناني المتجذّر في تحديد العدو والصديق، في ظلّ خبث الدعاية الإسرائيلية ونشاط ضباط الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. وكما كانت المقاومة، عند الوطنيين الواعين، ردّ فعلٍ طبيعياً ضد الاحتلال في غياب الدولة وقواتها المسلحة، كانت العمالة ردّ فعلٍ طبيعياً عند أبناء الجهل وضعاف النّفوس، في ظلّ غياب الدولة وإنمائها ومؤسساتها ورعايتها لمواطنيها.
بعد 15 عاماً من التحرير، تبدو تركة الاحتلال ثقيلة في الجنوب. فالدولة التي زارت بنت جبيل ومروحين وعيتا الشعب وميس الجبل والرميش ومرجعيون وشبعا وحاصبيا للمرة الأولى مع قوات «اليونيفيل» لتطبيق القرار 1701 بعد حرب تموّز 2006، لم تراجع حساباتها على ما اقترفته بحقّ الجنوب منذ الاستقلال اللبناني وقيام الكيان العبري حتى اليوم، ولم تصلح مكامن الخلل التي أدت في الأصل لوجود خيار العمالة عند مواطنيها. وعلى العكس، لم تستبدل تطبيق الأحكام القاسية على العملاء، بإيجاد أطر احتضان للمواطنين وتأهيلهم ومنحهم حقوقهم ودفعهم لتنفيذ واجباتهم، بل تركت الأحكام المخفّفة آلية وحيدة للعقاب، من دون التعليم والخدمات الصحية والاجتماعية. ولم تكتفِ الدولة بـ«تبسيط» جرم العمالة لإسرائيل على هذا القدر، بل أمعنت في تهميش الوطنيين الذين دفعوا ثمن عنادهم ومقاومتهم للاحتلال. واحتفظت لنفسها بتعويضات مالية زهيدة، قيل في مجلس النواب عام 2001، إنها من حقّ المبعدين والمهجّرين من الجنوب، في الوقت نفسه الذي تلقّى فيه العملاء، صغيرهم وكبيرهم، تعويضات من جيش الاحتلال عبر المصارف اللبنانية، مرة بدل سنين الخدمة في ميليشا لحد، ومرة ثانية بدل السنوات القصيرة التي أمضوها في السجون اللبنانية.
وإذا كان حزب الله وحركة أمل، بفعل القدرات المالية والمؤسسات، استطاعا إحداث اختراقات على صعيد الإنماء والاحتضان لأهالي قرى الجنوب الأوسط والساحلي من الشريط الحدودي سابقاً في غياب الدولة، فإن قرى حاصبيا ومرجعيون نالت «من الجمل أذنه» إنماءً وتعليماً ووظائف رسمية.
وطنيو الجنوب لا ينتظرون من الدولة مقابلاً على مواقفهم، ومال التعويضات «الوهمية» إن دُفع لمستحقيه أصلاً، لا يرمّم بيتاً. الحرب مع إسرائيل لن تنتهي، لكنّ الطريق إلى العمالة تمرّ حتماً بالإهمال والتقصير، ولسوء الحظّ، العدوّ «غاشم»!