يحدث هذا في أواسط الثمانينيات. تجلس ابنة العاشرة مع أولاد الجيران على درج المبنى هرباً من شدة القصف. المبنى يقع عند خطوط التماس الفاصلة بين البيروتَيْن وهي تقيم في الشطر الغربي منها. يشتد القصف فيهتز المكان، وتتوالى الملاحق الإخبارية. لم يعد يفصل بين الملحق والآخر أكثر من دقيقة. لا يمكن لعقلها الصغير أن يفهم سبب هذا الجنون، ولكنها ترى الخوف في عيون الكبار. يتسلّل الخوف إليها عندما تعلم أن الجيران سيغادرون المبنى مع أولى ساعات الصباح، إلى منطقة أكثر أمناً. أما هي فلا مكان تذهب اليه. هكذا فهمت من كلام والدتها عندما سألها الجار البيروتي عن وجهة الرحيل: هل ستذهبون الى قريتكم في الجنوب؟ لا. كان الجواب قاطعاً. عن أي قرية يسأل جارها. القرية بعيدة في «آخر الدنيا» وهي فوق ذلك «محتلة من اسرائيل». كبرت الطفلة على هذا التوصيف. في كل مرة كانت تسأل عن قريتها، كانت تكرّر العبارة نفسها. «اسرائيل» هذه، كانت مخلوقاً شريراً، بسببه تضطر العائلة للبقاء في بيروت خلال جولات الحرب أو خلال الإجازة المدرسية في فترات السلم. لكن «اسرائيل» هذه كانت أيضاً مخلوقاً قوياً، هكذا سمعت الكبار يتحدثون عنها. هي احتلت فلسطين وهزمت العرب وعاجلاً أم آجلاً ستضم القرية إليها. حزنت عندما سمعت هذا الكلام لأنه يعني، بالنسبة اليها، عدم زيارة القرية مجدداً.

لكن يوماً ما ستقرر العائلة الهرب من جولة حرب بيروتية إلى الجنوب. هكذا وجدت نفسها على الطريق الساحلية، تكاد لا تصدق أنها ستزور تلك القرية الواقعة «في آخر الدنيا» التي «ستضمها إسرائيل إليها عاجلاً أم آجلاً» كما تنبأ البعض. عند المعبر الفاصل بين القرى المحررة وتلك المحتلة كانت السيارات تتكدس بعضها وراء البعض الآخر، بانتظار أن يتم تفتيشها من قبل عملاء ميليشيا انطوان لحد. كان العميل يدور حول السيارة ويسأل عن حمولتها ثم يأمر بأن توضع كل الحقائب أرضاً، وأن يفتحها أصحابها ثم يفرغوا محتوياتها. أما عندما تحين لحظة التوجه الى غرف التفتيش والتحقيق، فكان الكبار يحبسون أنفاسهم ويستعينون بما تيسّر من ذكر ودعاء لرب العباد كي يدفع عنهم شرور المحقق وشتائمه. تذكر أنه طُلب منها أن لا تجيب بأكثر من «ما بعرف» عن أي سؤال يوجه اليها. ساعات من الانتظار تحت الشمس ستمضيها مع عابرين كثر قبل ان يسمح للسيارات بالدخول الى الارض المحتلة.
في القرية المغلقة على نفسها وعلى القرى المجاورة، كل شيء كان مثار دهشة للأطفال الآتين من خارج «الشريط المحتل»، فالحياة الريفية على بدائيتها كانت تشبه تلك الصور التي تزين كتاب القراءة العربية. أشياء كثيرة لا تراها في المدينة وأشياء كثيرة أيضاً كان عليها أن تحذر وجودها. أولى المحاذير عدم شراء السكاكر التي يكتب عليها بلغة غريبة (العبرية)، أما الخضار والفاكهة فكانت أمها أدرى بكشف مصدرها. ما إن تمسك «الحبة» بيدها حتى تهمس بأذنها «رجعيها هيدي اسرائيلية». أحياناً كانت تشعر بالضيق من تلك التصرفات وتعجز عن فهمها، لكنها أدركت لاحقاً أهميتها ودورها في تشكل وعيها السياسي. كان مقرّراً لتلك الزيارة أن تنتهي ما إن تهدأ الأوضاع الأمنية في بيروت، لكن العودة لم تكن مرتبطة فقط بقرار الأهل، كان عليهم أن يحصلوا مسبقاً على «تصريح» بالمغادرة، وذلك فصل آخر من فصول المعاناة لم تكتشفه إلا حينما عوقبت قريبتها بالإقامة الجبرية في القرية، لأن العميل رفض منحها ذلك التصريح.
في التسعينيات بدأ الكلام الذي سمعته طفلة عن «أبدية الاحتلال» يتلاشى في النسيان. حلّت محله صور عمليات المقاومين التي كانت تعرضها «قناة المنار». الجنوب الذي عاشته حلماً في طفولتها، صار انتماء يُغبط نفسها. أما «اسرائيل» فلم تعد بعبعاً في نظرها، كان يكفي أن تعيش تجربة عدواني (1993 و1996) كي تكتشف ما يمكن أن يصنعه رجال قرروا أن العين تقاوم المخرز.
بتسارع كانت تسير وتيرة العمل المقاوم حتى صار النصر ممكناً وهذا ما حصل. في أيار عام ألفين، لم يهزم الاحتلال وحده بل هزم معه أيضاً الخوف الذي أريد له أن يسيطر على جيل كامل. هو جيلها الذي لم يقرأ يوماً كلمة عن «مقاومة» و»احتلال» في كتاب تاريخ لبنان.
الخامس والعشرون من أيار ليس عيداً عادياً. هذا عيد دفع ثمنه دماً. عيد انتظره من شُتم يوماً على معبر لحدي، ومن سُجن، ومن فقد عزيزاً، ومن خسر منزلاً، ومن حمل السلاح وقاوم، ومن هُجّر ومن ومن... اليوم عندما تريد زيارة قريتها لن يحتاج الأمر إلا أن تدير محرّك سيارتها وتمضي، فكل الطرق إلى الجنوب سالكة. وغداً، عندما يكبر طفلها قليلاً ستخبره، وهي تنظر من شرفة منزلها المواجه لفلسطين المحتلة، أن هزيمة العدو ممكنة وأن كل ما تراه عيناه كان يوماً ما مستحيلاً لولا رجال صدقوا.