غزة | بعد 67 عاماً على النكبة، تبدو مقاربات السلطة الفلسطينية لقضايا اللاجئين تعبر عن استسلام كامل يتقبّل إفرازات النكبة وما بعدها. فعلى مدار عقود، اشتغلت منظمة التحرير والسلطة على قلب الخريطة المفاهيمية والسياسية للجوء الفلسطيني، وصبغ التبعات السياسية والإنسانية لحقّ العودة بنكهة اقتصادية ومدنيّة بحتة، وذلك عبر جملة من الاتفاقات التي وقّعتها مع العدو الإسرائيلي، ولا سيما «أوسلو» التي أخذت من «التسوية العادلة للاجئين الفلسطينيين» عنواناً لسقف طموحها «المروّض» على صعيد اللاجئين.
بعد هذا كله، عمدت السلطة ومن ورائها المنظمة إلى استحداث منظومة اصطلاحية تهدف إلى وسم اللاجئ الفلسطيني بأهلية اندماجية كاملة خارج حدود فلسطين، إرساءً للتوطين وتفكيك المخيمات، التي كانت تعتبر نقطة انطلاق نحو العودة.

«دائرة شؤون المغتربين»

وضمن محاولة صهر اللاجئين الفلسطينيين في المحيطات العربية والغربية، أسّست «اللجنة التنفيذية» للمنظمة عام 2007 دائرة تُسمى «دائرة شؤون المغتربين»، بقرار من عباس. ووفقاً للدائرة، فإنّ مصطلح «المغتربين» ينطبق على من يعيش خارج حدود فلسطين، باستثناء الموجودين في مناطق عمل «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين ــ الأونروا».
وبالتدقيق أكثر، فإن هذا المصطلح التجزيئي للاجئين يهدف إلى تغييب صفة اللجوء عن كثيرين ممّن لا يسكنون بلاداً تنشط فيها «الأونروا»، ما يجعل المعيار المكاني محددّاً رئيسياً للجوء، وينحصر في مخيمات لبنان والأردن وسوريا.
بعد ذلك، رفعت «دائرة شؤون اللاجئين» (المنبثقة عن المنظمة) يدها عن فئة كبيرة من اللاجئين، وأحالت ملفاتهم إلى دائرة المغتربين التي يرأسها عضو المكتب السياسي لـ«الجبهة الديموقراطية» تيسير خالد. من كل ما سبق، لا يكون من التجني القول إن المنظمة والسلطة نسفتا حقّ العودة، وحوّلتا الظرف الاستثنائي (الشتات) إلى قضية اعتيادية تشبه المغتربين من أي دولة في الخارج، كأن عودة الفلسطينيين إلى بلادهم تتّسم بالخيار الطوعي! أيضاً يؤسس هذا إلى تكوين مفهوم جديد عن ماهية «البيت» لهذا «المغترب ــ اللاجئ»، إذ إنه سينتظر «حدود الدولة الفلسطينية التي سيجري التوافق عليها»، بدلاً من التعريف القانوني الذي أقرّته «الأمم المتحدة» في هذا الصدد.
بالعودة إلى الأعوام الأربعة السابقة، يمكن التركيز على تعميم وزّعته الدائرة على «قيادات الجاليات الفلسطينية في أوروبا»، يقضي بـ«عقد اجتماع موسع في بيت لحم أو رام الله في النصف الثاني من أيار، للتباحث في أوضاع جالياتنا ودورها، سواء في بلدان إقامتها أو علاقتها مع الوطن، ومع المجتمعات الفلسطينية التي هاجرت منها، وتحديداً مخيمات اللجوء في الأردن ولبنان وسوريا».
من الفور، التقط أحد مؤسسي منظمة التحرير، أنيس القاسم، هذا التعميم، مبرزاً «السقطات الأخلاقيّة التي وقعت فيها الدائرة على صعيد اللاجئين»، إذ بيّن أن «الدائرة تعمّدت في التعميم إكساب مخيمات اللجوء صفة قانونية كنقطة استقرار تمنح المقيمين فيها حقّ إقامة دائمة والعودة إليها بحرية واختيار، إذ اعتبر الفلسطينيين الذين غادروا المخيمات إلى خارجها مهاجرين منها». ورأى القاسم أنّ «الوجود في المخيمات عمل إنساني من جانب الدولة المضيفة لا يكسب المقيم حقوقاً قانونية أو طبيعية، كما حال المواطن العادي، لتكون مغادرته لها هجرةً منها».

جوّفت المنظمة
الحق الطبيعي للاجئين
من مضمونه الرئيسي

تأسيساً على ما سبق، فإن الدائرة لا تتخلّف عن اجتماعات جامعة الدول العربية المتعلقة بالمغتربين العرب، في محاولة لإلحاق اللاجئ بركب «الاغتراب»، وهنا يؤكّد عضو «الأمانة العامة لاتحاد الجاليات والمؤسسات والفعاليات في الشتات»، نضال حمد، أنّ «الفلسطينيين في الشتات، وتحديداً في أوروبا، يرفضون تماماً التعامل مع الدائرة باعتبارها جهة تسعى إلى صهرهم في المجتمعات التي لجأوا إليها إبان النكبة»، قائلا في حديث إلى «الأخبار»، إن «السفارات الفلسطينية وأصحابها ومديري المكاتب التمثيلية في الشتات، هم انعكاس للسلطة وسياساتها ومشاريعها التي تتنازع على المصالح، وليس على النضال من أجل فلسطين».
وفي سياق البحث المعمق، تبيّن أنّ الدائرة المذكورة ليست وحدها من يعمل على «تدجين الوعي الفلسطيني» بشأن اللاجئين، تحت سيل من الإغراءات الاقتصادية والمدنيّة، إذ يؤكد مصدر في «الجبهة الشعبية» لـ«الأخبار» أنّ ثمّة مشروعاً آخر في الإطار نفسه روّج له أربعة من أركان «المقاطعة في رام الله»، وحمل عنوان «شبكة فلسطين»، قبل سنوات. هذا المشروع الذي كشف عنه القيادي يسير على خطى «وثيقة جنيف»، وكان يكرّس لتبني مصطلح «المغتربين المهاجرين»، بدلاً من «اللاجئين المهجّرين».
جاء في إحدى وثائق المشروع أن «دور منظمة التحرير هو دعم شبكة فلسطين في الخارج ووضع إمكاناتها السياسية والمالية خلف هذا المشروع لقيام المغتربين بدعم المشروع الوطني الفلسطيني، وتحقيق أهدافه بإقامة دولة فلسطين الديموقراطية»، من دون أن يكشف القائمون على المشروع (رمزي خوري، عيسى قسيسا، غسان الخطيب ورفيق الحسيني)، عن طبيعة «ديموقراطية» الدولة أو أهداف «مشروعهم الوطني».
وكان من المفترض أن يدار المؤتمر الذي سيتمخّص عن المشروع من ثلاث جهات هي: الرئاسة، الحكومة ودائرة المفاوضات في منظمة التحرير، ما يوحي بأنه متّصل على نحو مباشر بخلق واقع جديد لا وجود للاجئين فيه.

حق العودة «اقتصادي»!

على جانب آخر، يشكل إعلان المبادئ «اتفاق أوسلو» لعام 1993 الصفعة القاسية لقضية اللاجئين، إذ تم ترحيل الأخيرة إلى قضايا الحل الدائم التي تغطّي «القدس واللاجئين والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع الجيران...»، بعدما اعترفت منظمة التحرير بـ«حقّ إسرائيل في الوجود ونبذ الإرهاب»، بمعنى أنّ أراضي 1948 باتت خارج إطار الصراع، وخارج الاستحقاقات القانونية للفلسطينيين.
واللافت أن قراري مجلس الأمن 242 و338 اللذين يحملان بذرة «التسوية العادلة للاجئين الفلسطينيين» كانا مرجعية «أوسلو»، بدلاً من القرار «194» القاضي بحقّ العودة والتعويض. وبناءً على ذلك، تم تفكيك «حق العودة» وإعادة بنائه على أنّه «حل عادل»، بطريقة ضبابية ودون الإشارة إلى جوهر هذا الحل، عدا ربط الأخير بـ«نازحي 67» دون «لاجئي 48».
ومع قراءة الاتفاق المكوّن من 17 مادة و5 ملاحق، نجد أنّ مفهوم «الدخول» صار معادلاً لمفهوم «العودة» المقصور على «لاجئي 67»، بل ينزع من الفلسطيني حقّ الإقامة الدائمة في بلده.
فوق ذلك، لم تقف المنظمة عند هذا الحد، بل أخرجت حق العودة من سياقه السياسي والإنساني وحوّلته إلى رزمة من التسهيلات الاقتصادية التي يتمتّع بها اللاجئ في الخارج بغية توطينه ودمجه في التركيبة المجتمعية للدولة التي يلجأ إليها، وتمّ ذلك عبر ما عُرف بـ«اللجنة الخاصة باللاجئين»، التي تم تدشينها بعد مؤتمر مدريد 1991، وتلخّص عملها في تحسين شروط القهر والغبن التاريخي الواقع على اللاجئ الفلسطيني، عبر تشكيل ست لجان مختلفة، هي: لجنة شمل العائلات، البنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية، الصحة العامة، قواعد تنمية المعلومات عن اللاجئين، رخاء ورفاهية الأطفال، تنمية الموارد البشرية وتوفير فرص العمل.
هكذا، جوّفت المنظمة الحق الطبيعي للاجئين من مضمونه الرئيسي، واشتغلت على إحلال التوطين والتأهيل محل العودة والتعويض، عبر «محاولة» إحلال التنمية محلّ فقر المخيمات، وتحويل الأخيرة إلى أحياء سكنية واستبدال حالتها المؤقّتة بوضع مستقر ونهائي، إلى جانب التركيز على المشاريع ذات الطابع الإغاثي والمعيشي، إلى حدّ صارت تتقاطع فيه المنظمة مع خطاب «الأونروا» ومقارباتها لقضايا اللاجئين.

تدحرج المفاوض الفلسطيني

مرت السنوات، وجاء عهد ما بعد أوسلو، الذي تدفقت فيه المقترحات العربية والغربية الهادفة إلى «إيجاد حلول عادلة للاجئين»، على طاولة المفاوض الفلسطيني، فيما الأخير كان مفتوناً بمقترحات «بيرون» الكندية عام 1995، التي دعت «الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي إلى التخلي عن المحرّمات، وتوفير خيارات حرة للاجئين يستطيعون بها أن يشكّلوا خيارهم الحر». وبهذه الصيغة، أنس المفاوض الفلسطيني إلى كسر صورة المحرّمات في الذهنية الفلسطينية، بعدما ارتأت الحكومة الكندية أن تبتكر «حلولاً خلاقّة» تفتّت حقّ العودة.
أمّا وثيقة جنيف 2003، المعروفة بوثيقة «عبد ربه ــ بيلين»، فقد شكّلت انعطافة خطيرة في مسار المفاوضات الثنائية المتعلقة باللاجئين، إذ أرسى المفاوضون «خيارات توطين اللاجئين حيث يقيمون، أو توطينهم في الدولة الفلسطينية على حدود 1967، أو توطينهم في الأراضي التي يتم تبادلها وفقاً للمتفاوضين، أو أن تقوم إسرائيل بالسماح بعودة بضعة آلاف من اللاجئين تحت عنوان لمّ شمل العائلات»، بديلاً من حقّ العودة وفقاً للقرار «194».
كذلك أقرّ الطرفان في مؤتمر «أنابوليس» عام 2007 بـ«دولة يهودية خالصة» تكرّس وجود هوية إثنية واحدة لا تحتمل استيعاب هويات أخرى بما فيها الفلسطينية، الأمر الذي يعني نفي السلطة الكامل لحق اللاجئين في العودة إلى بلداتهم، مع سبق الإصرار والترصّد!
ووفق ممدوح نوفل، وهو المستشار الأمني للرئيس السابق ياسر عرفات، فإن المفاوض الفلسطيني في محادثات «كامب ديفيد الثانية» عام 2000 قبل «تحمل إسرائيل مع الآخرين المسؤولية المعنوية عن نكبة اللاجئين، وعودة بعضهم إلى أراضيهم التي صار اسمها إسرائيل». وبذلك، أسقط عن «إسرائيل» التزاماتها القانونية والأخلاقية تجاه اللاجئين، وأشرك معها الآخرين في تحمّل العبء المعنوي لنكبة اللاجئين فقط. وباستعادة المفاوضات الأخيرة التي سبقت حالة الجمود بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، نلحظ أنّ الاعتراف بيهودية الدولة كان لبّ أيّ محادثات ثنائية، ما يعني أنه في إعادة تفعيل أي مفاوضات لاحقة، سينطلق التعامل مع قضايا اللاجئين من هذه القاعدة.
وفي إطار قلب الحقوق التاريخية إلى حقوق اقتصادية، يوضح مصدر مقرّب من السلطة أنّ «المحادثات غير الرسمية مع الجانب الإسرائيلي على صعيد حل اللاجئين، تعتبرها السلطة محادثات شرعية تندرج توصياتها ضمن مشروع السلطة وحلوله المطروحة لقضايا اللاجئين»، مبيّناً أن وثيقة «إكس أن بروفانس» التي تم توقيعها قبل حوالى ثماني سنوات بين المستشار الاقتصادي للاتحاد العام للصناعات الفلسطينية، صائب بامية، مع إسرائيل، طرحت أرقاماً للتعويض المالي بمعدل 14 ــ 21 ألف دولار لكل لاجئ، بديلاً من العودة، وليست مكمّلة لها.
في هذا السياق، يذكر أيضاً أن سري نسيبة، الذي كان رئيس مجلس أمناء جامعة القدس، أصدر بالتعاون مع مركز «يافي للدراسات الاستراتيجية» التابع لجامعة «تل أبيب»، وثيقة تقترح عودة اللاجئين إلى حدود الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع فقط، وهو مدار بحث لا يزال قائماً حتى الآن!




الاستفادة من الخراب في مخيمات الشتات!

في ظلّ الأسلوب السياسي الذي تتعامل به السلطة مع قضايا اللاجيئن، يؤكّد عضو «الأمانة العامة لاتحاد الجاليات والمؤسسات والفعاليات في الشتات»، نضال حمد، أن «ما يحدث في مخيمَي اليرموك في سوريا، وعين الحلوة في لبنان، يشير إلى رضى السلطة عن تهجير سكان المخيمات وإعادة توزيعهم على أرجاء العالم». ويضيف حمد: «تبين أن موقف منظمة التحرير بشأن اليرموك يخضع لضغوط وإغراءات دول تدعم المسلحين الذين يحتلون المخيم، وتحديداً من قطر والسعودية»، موضحاً أن «بإمكان المنظمة بسهولة أن تتبنى الحل العسكري في المخيم، لكنها ترفض ذلك وتصر على جعل سكانه رهائن للموت أو ركوب البحر بطريقة غير شرعية، ما يخدم هدف الاحتلال في إسقاط حق العودة».
على خط مواز، يرى حمد أنّ ثمّة «تدخلات خارجية وأجهزة مخابرات تعمل منذ سنوات على تصفية شباب مخيم عين الحلوة الذي تعمل فيه قوى وجماعات تكفيرية صغيرة، فضلاً عن محاولتها زرع فتيل الفتنة بين سكانه وجيرانه»، مضيفاً: «لدى حركة فتح نفوذ قوس في المخيم، وإن لم تتدارك الفصائل هذه المأساة، فإننا نسير نحو كارثة كنهر البارد واليرموك وبقية مخيمات سوريا، ومن قبلها تهجير فلسطينيي العراق».