يكتب سعد الله ونوس (27 مارس 1941 - 15 مايو 1997) في رسالة قديمة إلى صديقه إبراهيم وطفي المقيم في فرانكفورت (مؤرخة عام 1957): «إننا محكومون باليأس»، لكنه سيقوم ــ بعد عقودٍ على كتابة هذه العبارة ــ بتحويل مجراها إلى «إننا محكومون بالأمل». بين اليأس والأمل عبرت مياه كثيرة، وضعت صاحب «مغامرة رأس المملوك جابر» في لجّة العاصفة، لجهة التحولّات التي طرأت على مواقفه ونصوصه وخيباته، وربما لو عاش هذه «الأيام المخمورة» لكان أعاد العبارة إلى أصلها الأول، ونحن ندخل نفقاً غامضاً من احتمالات الغرق. الكنوز التي أودعها المسرحي الراحل في أرشيف المسرح السوري، لم يقربها أحد، خلال سنوات الحرب.
ظلّت هذه النصوص الإشكالية بمنأى عن الخشبة رغم أهميتها القصوى في تشريح ما يحدث اليوم، إذ لطالما اقتحمت نصوصه المناطق الشائكة في علاقة الفرد بالسلطة، ومعنى الخيبة والخيانة والقمع، وكيف يكون المسرح برزخاً نحو الأسئلة الكبرى لجيل وجد نفسه في قفصٍ ضيّق يعوم في مستنقع الهزائم.
من هنا كانت شراكته مع المخرج الراحل فواز الساجر في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، العائد للتو من موسكو، بمثابة طوق نجاة، أو التفاحة المحرّمة التي كان يتطلّع إلى قطفها من الشجرة العالية.
أثمر هذا اللقاء الإبداعي الخلّاق عن تأسيس «المسرح التجريبي» في عروضٍ لافتة، شكّلت منعطفاً حاداً في تاريخ المسرح السوري، سواء على صعيد الاشتباك مع نصوصٍ عالمية وسحبها إلى بساط المحليّة، أو على صعيد المغامرة المسرحية وزجّها في أتون التجريب، كما فعلا أولاً، في عرض «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة»، المقتبس عن مسرحية بيتر فايس «كيف استيقظ السيد موكنبيت من آلامه». ثلاث تجارب مهمة، أنعشت الخشبة، مثلما أنعشت الشريكين، قبل أن ينطفئ فواز الساجر إثر أزمة قلبية (16 أيار/ مايو 1988)، ما أرغم سعد الله على أن يعيش منفرداً، خيبةً إضافية، ووجعاً روحياً، وصمتاً طويلاً، انتهى به إلى سرطان الحنجرة. زلزال آخر عاشه صاحب «الملك هو الملك» مع هبوب نكبة حرب الخليج الأولى، أو ما سماه «الخفقة السوداء لأعلام الخيبة» وفقاً لاعترافاته الأخيرة في شريط السينمائي الراحل عمر أميرلاي «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء» (1997). كان الرجل يحتضر، كما قطرات أنبوب السيروم، ممدّداً في سرير المستشفى، بـ«مزاج جنائزي» بدا أنه المشهد الأخير، قبل إسدال الستارة على حياته لمرّة أخيرة.

ما مصير مذكراته التي
أنجزها قبل رحيله في عشرة دفاتر، وهل سترى النور قريباً، أم ستبقى طي الأدراج؟

إثر هزيمة «مسرح التسييس» تحت ضربات «التحوّلات الفاجرة» المسرح الذي دافع عنه طويلاً، في نصوصه الأولى، بذرائع إيديولوجية، وخطاب تنويري أو طليعي، تبيّن له لاحقاً، صعوبة ترسيخ مثل هذه المفاهيم، أو التأسيس عليها، سيلتفت صاحب «طقوس الإشارات والتحوّلات» إلى مسرَحة القهر، انطلاقاً من الخليّة الصغرى للعقل العربي، كاشفاً عن أوجاع الفرد، والتقاط القهر الكامن في أعماق الجماعة، وإذا بنا أمام عقل مهزوم تاريخياً، وعدالة مفقودة، وسلطة مستبدة، حوّلت الإنسان العربي إلى كائن مقهور يعيش في قفص. أراد إذاً، أن يهزم الصمت بحمّى الكتابة واستكشاف مكمن الألم بمبضع آخر. هكذا، أنجز خلال سنواته الأخيرة على فراش المرض، مجموعةً من النصوص المهمة بمناوشة اليومي والراهن والحميمي، واستبطان بنية التفكير العربي، ومشكلات المجتمع المعاصر كما في «أحلام شقية»، و«يوم من زماننا»، و«الأيام المخمورة». كأنه اكتشف متأخراً، أن مقارعة التاريخ وحده ليست كافية لمواجهة العطب. وما اندحار المثقف العضوي إلا محصلة لأبشع أشكال الاضطهاد والتهميش والاستبداد التي وقعت عليه. يقول بمرارة وأسى، في أحد حواراته الأخيرة «المسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيّباً ومُرّاً، وكان الحلم ينأى منطوياً في سراب أو وهم، نعم... تبدّد الحلم وانطوى».
في الخندق الآخر للكتابة المسرحية، سعى إلى قضايا سجالية من نوعٍ آخر، تتعلّق بالفساد والحب والرغبة والحرية، المفردات التي أهملها في نصوصه المسيّسة، محمولة على هتاف شعري، وسرد متوتر، لا يعبآن بمتطلبات العرض المسرحي، إذ «تضطرب الرؤية ويختلّ اليقين». وسوف تهتف «غادة» بطلة مسرحية «أحلام شقيّة» قائلةً «أين الشعر في هذه الدنيا؟ لا الحلم ممكن، ولا التمنّي ممكن. لا شيء إلا الظلم والموت». هكذا نتعرّف إلى شخصيات تتأرجح فوق حبال الرغبة والانعتاق والانتحار، في محيط عائلي مضطرب، كترجيع لمشكلات كبرى تنطوي على حطام جمعي، ووجع تاريخي يتناسل من شقوق جدران آيلة إلى السقوط، فالتمرّد لديه لم يعد المحرّض الأساسي في الكتابة، بقدر اهتمامه بتعرية أمراض مجتمع مكبّل بأصفاد الأعراف والتقيّة والزيف. هكذا تتلاقى في أعماله، وفقاً لما تقوله خالدة سعيد «صنعة الحرفي، إلهام الرائي، ذخيرة الحكواتي، بصيرة المحلّل وموهبة ابتداع الأساطير والرموز. مهندس منظومات ورؤى، رسّام مسارات عبور وتحوّل، صانع كنايات وأمثولات ونحّات رموز». ولكن ماذا لو شهد سعد الله ونوس مشهد خريطة البلاد وهي تتمزّق تحت وطأة الحرب الشرسة، وما هي المراجعة التي سيقوم بها لنصوصه ومواقفه؟ وماذا سيقول عن مسرح يحتضر، وساحة ثقافية تحرسها فزّاعات محشوة بالقش، ومصحة عمومية للجنون؟ هل سيعيد صرخة بطل مسرحيته «الأيام المخمورة»: «ما أشدّ وحشة هذا العالم»، أم يواجه «أبو سعيد الغبرا» الذي خرج من قبره مرّة أخرى، كي يتهم أحفاد أبي خليل القباني، بنشر الفسق والمراذل؟ فواتير كثيرة تراكمت في غيابه الـ 18، من دون أن يسدّدها تلاميذه، أو أن يجيبوا عن أسئلته الأخيرة «أيقنت أنّ في العائلة دملاً يتستّر عليه الجميع، وأيقنت أنّي لن أستقر في اسمي وهويتي إلا إذا اكتشفت الدمّل وفقأته»، كما سيفتش عن الحقيقة، وإذا بها «إبرة في مزبلة» («الأيام المخمورة»). هذا التحوّل في اهتماماته، يستجيب عملياً إلى شكوكه وقلقه حيال السرديات الكبرى التي انخرط فيها طويلاً عبر مروحة واسعة من العتبات المسرحية التي خاضها بيقين المثقف التنويري، لجهة توظيف أشكال الفرجة التراثية، واستثمار شخصية الحكواتي، واقتباس الحكاية الشعبية، إلى مساءلة السلطة والتاريخ، ثم مغامرة التجريب، وصولاً إلى السرديات الصغرى المتمثلة بشؤون الفرد المقموع، وربطها عضوياً بما هو جمعي، مغلقاً الدائرة على أسئلة الهويات الصغرى وسياقاتها العامة المضطربة، من دون إسراف درامي، منشغلاً في التنقيب عن الدمامل التي أرهقت الجسد المأزوم والمُهان والمكبّل بألفِ حبلٍ وحبل.
في رسالة أخيرة إلى صديقه إبراهيم وطفي يخبره فيها عن إصابته بالسرطان، يقول «لستُ قلقاً. ولا أعتقد أني سأموت. ولكن لو متّ فستكون بعصة كبيرة. لأن مشروعي الجدّي لم يتبلور إلا في السنوات الأخيرة. وهو ليس ورائي، بل ما زال أمامي. ومع ذلك، لن تكون البعصة مهمة. وفي الواقع، لم يبقَ إلا ما يبعص». في ذكراه، سوف نسأل مجدّداً: ما مصير مذكراته التي أنجزها قبل رحيله في عشرة دفاتر، وهل سترى النور قريباً، أم ستبقى طي الأدراج، وفي ذمّة التاريخ؟