يقود صوت المغنّي السوادني الراحل محمود عبد العزيز إلى مكان المطعم. تفوح روائح أطعمة مجهولة لِمَن هُم غير سودانيين. في المكان الواقع في نهاية شارع ضيّق موازٍ لجسر «السلطان ابراهيم» يجتمع «الزُول» (الرجال) يومياً. يتناولون الطعام لا لسدّ ِجوعهم فحسب، بل ليظلّوا على تواصل مع «إرث» بلادهم. أربعة أفراد يلعبون «الورَق» في ركن منعزل من المطعم. يتحادث ثلاثة آخرون بصوت مرتفع عن «الأحوال والأموال» وعن عمل أحدهم الجديد في مجمّع تجاري على أطراف العاصمة.
تسأل الفتاة «الرجل الأبيض» ما إذا كان يُحِبّ أن يتذوّق البامياء على طريقة أهل السودان. يعرف الزائر أن ذلك ليس سؤالاً بقدر ما هو دعوة لا تُرَدُّ لتناول طعام الغداء.
يختصر اسم الفتاة (ألَم) حال ناس السودان المقهورين في الداخل والتائهين في الخارج، مع أنّ «ألَم» هذه، فتاة دائمة الابتسام. «يَلفي» السودانيون في لبنان على بعضهم أسوة بغيرهم من المقيمين «الأجانب»، ولا يختلطون كثيراً مع أبناء البلد المضيف رغم أنهم مواطنون عرب. يقيم معظمهم في أحياء شعبية قريبة من مكان العمل. عدد كبير منهم يحمل شهادات جامعية عليا ويعمل في وظائف من «مستوى سادس» كأعمال التنظيفات أو كنواطير بنايات و«فيلات»، فيما يعمل المحظوظون منهم سائقين خاصّين لـ«سيّد القصر» هنا أو لـ«المعلّم» هناك.
أغلبية المقيمين في لبنان مضى على وجودهم، بالحدّ الأدنى، أكثر من خمس سنوات ذلك أن الأكثرية العظمى منهم كانت تأتي إلى لبنان خِلسة عبر الحدود السورية قبل بدء الحرب في سوريا، لتتمّ تسوية وضعهم بعد دخولهم الأراضي اللبنانية.
في المطعم الذي يديره شاب سوداني مكافح اسمه جمال، بالشّراكة مع ألَم، ينفضُّ «الجمهور» بعد انتهاء إحدى المباريات لتبدأ سهرة أُخرى في المطعم المجاور الذي يديره سوداني آخَر هو ياسر. هنا أيضاً سودانيون بلهجات متعدّدة وملامح وجوه مختلفة. «كُلّنا سودانيون، هذا مثلاً من الخرطوم وهذا من الولاية الشمالية. وذاك من دارفور أما هذا فهو من جبال النوبة فيما الأخ هناك من الجنوب». يقدّم ياسر، إضافة إلى بعض الطعام اللبناني، مأكولات سودانية مثل العصيدة والكِسرة والقرّاصة والكمُّونية وغيرها.
يلتئم الشّمل مساءً في «مطعم الزول». أحد عشر شخصاً بينهم ثلاثة منتسبين لمنظمة «أَنجو» التي تعنى باللاجئين السودانيين. ينزل الشاي إلى الطاولات، كذلك شراب «الكَرْكَديه» الساخن ذي اللون الأحمر. نجم الدين ويعقوب ومصطفى وإدريس وعصام وصدّيق وآخرون. ليس سهلاً أن تجد سودانيين يتحدّثون للآخرين بهذه الحماسة عن كل ما يدور في بالهم. كان لا بدّ أوّلاً من «كلمة مفتاح». لماذا يأتي السوادنيون إلى لبنان رغم أنهم يدركون الواقع الصعب هنا؟

يقدّر السودانيون شخصية اللبناني المثقّف والعمَلي
لكنّ مآخذهم عليه كثيرة

سريعاً يتطوّع عصام للكلام: «سأُعيدك إلى الأساس. النظام الحاكم عندنا والذي يحتكر الوظائف العامة والخاصة لجماعته هو السبب في هجرة السوادنيين». يسأل: «ماذا قدّم النظام طيلة خمسة وعشرين عاماً سوى الحروب وتعزيز النزعات الانفصالية وازدياد نسبة الفقر؟ هل يعقل يا رجل أن ضيعتنا في الشمال السوادني مثلاً لم تكن قد وصلتها الكهرباء قبل عام 2008؟». يتدخّل مصطفى للقول: «ما يحطّم معنوياتك في بلد كالسودان أن كل طاقاتك الإنتاجية مهدورة». يضيف موضّحاً: «يعتقد البعض أن السوداني تنبل في بلده وهذه فكرة خاطئة. بماذا نعمل هناك؟». في السياق يقسّم إدريس السودانيين الموجودين في لبنان إلى فئتين الأولى التي تأتي لدوافع اقتصادية وهي الأكثرية، والثانية لأسباب سياسية وأمنية.
يقدّر السودانيون المقيمون هنا شخصية «اللبناني المثقّف والعمَلي» لكنّ مآخذهم عليه كثيرة. يتعرّضون لمضايقات شبه يومية في العمل (يمكن لربّ العمل الاستغناء عنهم بلا سبب واضح) وفي الأماكن العامة وأحياناً للاعتداء الجسدي والسّطو «فقط لمجرّد إرضاء رغبة شخص ما في إظهار تفوّقه العنصري»، ما يجعل عنصر الأمان مفقوداً بالنسبة لهم خصوصاً في أوقات المساء. يُشغِل بال ياسر كيف أنه سيُدخِل ابنته في العام المقبل المدرسة في ظلّ أقساط مرتفعة ونظرة الصغار إليها على أنها مجرّد «لوح شوكولاته» على حد قوله. يعزّ على يعقوب كيف أن كثيراً من اللبنانيين الذين صادفهم لا يعرفون السودان فعلاً: «ذات مرة سألني أحدهم ما إذا كان السودان يقع بالقرب من سيريلانكا!».
يروي عصام حادثة طريفة، في الشّكل، لكنها تدلّل على الصورة النمطية للسوداني بنظر المواطن اللبناني. يقول إنّ «أحد الأساتذة الجامعيين السوادنيين في الجامعة الأميركية في بيروت قام مرّة بزيارة صديق له يعمل كحاجب في إحدى البنايات، وصودف أن الأخير لم يكن موجوداً في غرفته لحظة مجيء إحدى القاطنات في البناية لتكليفه بشراء بعض الحاجيات المنزلية لها. فما كان من المرأة إلا أن طلبت من الدكتور نفسه بأن يأتي لها بالأغراض وقالت له خود ألف وروح جيبن». بالنسبة لها، «كلّو سوداني زي بعضو»، يقول عصام.
ليس سِرّاً القول إن السودانيين الذين يعانون من فوقيّة في التعامل معهم في كثير من الأحيان، يواجهون تمييزاً وتهميشاً على مستوى أبسط حقوقهم الإنسانية سواء من السُلطات اللبنانية أو من قلّة اهتمام سفارة بلادهم بأمورهم وحتى من جانب المنظمات الإنسانية نفسها على ما يقول هؤلاء. يشير عصام إلى أن «السوداني الذي يملك أوراقاً قانونية يصرف كلّ شيء في لبنان ولا يستفيد من الدولة أبداً. أول دخوله إلى الأراضي اللبنانية يدفع قرابة الثلاثة آلاف دولار لتسوية وضعه والحصول على الإقامة، ويدفع قرابة الألف ومئتي دولار سنوياً لتجديد إقامته ومصاريف أخرى».
يتقاسم السودانيون مع اللبنانيين الشكوى من غلاء الأسعار سواء في الإيجارات أو في السّلع الغذائية أو في المواصلات (معدّل معاشه الشهري 300$). أما الطامة الكبرى حسب هؤلاء فهي في عملية دخولهم المستشفى، حيث يعاملون بـ«احتقار كبير» فضلاً عن التكاليف الباهظة المترتبة عليهم والتي تؤمّن شركة التأمين جزءاً قليلاً منها.
يغادر نجم الدين المطعم تلبية لنداء ابنيْه الصغيرَيْن أحمد ولقمان. يحاول مصطفى ويعقوب مقاومة النُعاس الذي بدا واضحاً على وجهيهما المتعَبَين. لا يريد هؤلاء رمي كل مشكلاتهم على «الأخوة اللبنانيين» الذين يحتفظون بصداقات حقيقية مع بعضهم. «نحن في الأساس ضحية لسماسرة الهجرة». يعرفون الظروف المعيشية والاقتصادية للبنان وليست لديهم خيارات كثيرة في الوقت الراهن. «معظمنا طالب لجوء ونحن هنا حتى إشعار آخر».
إلى السوادن عودٌ على بدء، يُسأَل هؤلاء عن الانتخابات الرئاسية الأخيرة في السودان ونسبة الـ95% التي حازها الرئيس عمر البشير، فيجيون على سبيل النكتة: «النسبة صحيحة، ولكنها نسبة المشاركين من الحزب الحاكم وليس من الشعب السوداني». وكيف ترَون مشاركة بلادكم في عدوان «عاصفة الحزم» ضد اليمن؟ يقول «الزّول» قبل أن يتفرّقوا إلى بيوتهم: «كان الله بعون اليمنيين والسودانيين وكلّ الشعوب العربية!».