* كيف ينتهي اسم حبيبي

في مكانها تبقى شجرة السرو حين نتمشى، دون دراجات، على أوتوستراد ماركينيز -ستينڤايك، ويظل العجوز يحكّ ذراعه حتى محطة الوقود ويكرر: الطون، كبد الدجاج، الزبدة، الكزبرة، الكمون، الشاي الفرط. ويتكلم حتى تختلط الروائح بالذكريات، كيف أنه ظل واقفاً في الكرنك من الشام حتى حلب حين لا حرب. وكيف نام واستيقظ وصباح فخري يتأرجح بين يا ليل ويا عين، ولا يتوقف حتى يقاطعه الحالم وهو يكزّ على لفظ الإيمان. يُخرجها كجثة من بين أسنانه، مؤكدا أن جلّ ما يفعله الإنسان أن يكون الله، وأن الله خلق ليمحو خطايانا، وحين نصل سأشكّ بأنه قال: كل شيء زئبق.
وسأجد أننا لا نصل كما نذهب، لا إصبعٌ زائدٌ، نعم، ولا قَرن ناقصٌ في الرأس، لكن الغرابة تطغى على المنزل الذي بطابقين. لا غرابة في النموذج السويسري ولا في التدفئة الأرضية والنوافذ الكبيرة، بل في طواحين المزاج المتقلب بين الجوع والكآبة والبَرَد وعبّاد الشمس.

على العشاء سيجلسُ المريضُ والحالمُ والفتى في شجارٍ سيتنحّى عنه الأخيرُ بما سيقولُ:
حبيبي حبيبي
خصرُ حبيبي من الهواء،
على ذراعي خصرُ حبيبي
سمكٌ في الشفة السفلى،
بطٌ في العليا،
ساقا حبيبي نهران يلتقيان في فمي
اسمُ حبيبي طريقٌ في الغابة،
أعرفُ أين يبدأ
ولا أعرف كيف ينتهي اسمُ حبيبي.
وتهبُّ الموسيقى، ويظلّ يقول حبيبي حتى أنتبه أن توأماً آخر قد حلّ في البيت ليلاً حين كانت الموسيقى تهب. ذكران بقرطين من الفضة وجسدين شهوانيين، وأننا معاً على المائدة نضحك، نمضغُ العطّون مع البيرة، نعصر الليمون على السمك المقلي. بينهما أميلُ على الجنبين، عيني اليمنى أحبّت من كان القرطُ في أذنه اليسرى، عيني اليسرى أحبت من كان القرط في أذنه اليمنى. كانا شاحبين من الشعور بالذنب ومنهكين من طريق أمستردام، دخلا الحمام معاً، وأحدثا جلبة أصوات تحت الماء. كنت أقلّب قنوات التلفاز بين الحرب والسيكس والأغاني والرقص على الجليد لأبدو غير مهتم بشيء. وحين سأكون في مكان آخر فيما بعد، سأعرف أنهما قد بدّلا الأقراط بين الأذنين، وأن عينيّ كانتا تخونان بعضهما البعض طوال الوقت، وأنه لم يكن قد بقي لي سوى أن أستسلم للنسيان حتى لا أعود أتذكر سوى أبي وكم أحببته.
في بيتنا، وحيدين، قبلته في فمه، كان الشتاء وضوءٌ قليل يأتي من طرف الممر. أمسكت وجهه بين يدي، بقي نظري معلقاً على ظهر يدي. خفتُ. كان متورماً بعينين منتفختين وجلدٍ بارد. ولم يكن أبي، أبي مات حين قال أجلبوا لي ماء، حين مال على أمي وقال: لم أعد أرى سوى الظلام، وفي الظلام سأبقى حتى يخف الأزرق في المرآة الطويلة، وأرى أن كل شيء ما يزال في مكانه. دولابُ الدراجة الأمامي عالياً في الفيتس باركينغ. المقودُ مائلاً نحو شجرة السرو. كل شيء ما يزال في مكانه، وفي مكانها شجرة السرو تهتز في كل الأنحاء، تهتز كما لو أن شيئاً لا يحدث منذ الأزل.


*أرى قدمي

ولد في سهرورد ليتلف في سجن القلعة وهو يردد: أرى قدمي أراقَ دمي.
في السادسة والثلاثين، لم يعد يستحم ولا يغسل ملابسه، لم يعد يقص شعره أو يحلق ذقنه. يمشي في باب الفرج وكأنه يملك الأرض، ويبتهج للفكرة الحزينة البيضاء نفسها حين تحوم من الأبراج نحو البساتين. لم يكن الأخير يصر على أن الأنبياء سيظهرون ما دامت الخطيئة. ولم يكن الأول من يمدح البطء، كانت الأربعاء ولم تكن، وكان أبي يسعل. لم أدرِ قالت أمي، لا تنم حتى يموت أو لا تنم حتى لا يموت. أوسع وزرقاء كانت السماء، فغافلتني عيناي تحرسان بعضهما ونمتُ لأراكِ أمام ثانوية البنات. كنتِ تعانين من الاكتئاب الذي يسبق الدورة الشهرية. تكلمتِ عن التهاب خفيف في الرئة. قلت إنك تكرهين رائحة إبطك، وتحسين أن سرتكِ لا لزوم لها، وسكتِ عند الفيلم الذي ستشاهدينه في الأسبوع المقبل. ثم مرّ رجلٌ أصفر بشوارب صفراء وقبعة صفراء فانتبهتُ حينئذ أنني كنتُ أتكلم عن كل شيء يقع بين ماركات البيرة وبين الروض العاطر في نزهة الخاطر. نسيتُ أنني كبرتُ وأنني أرتب موتي بيدي حتى أنني قسوتُ، فكلما نظرتُ إلى رسغي الأيسر أرى شجرة الحياة وأبتسم ُللمبشرين في الغرفة الأخرى حتى يصدق المبشرون أنني آمنت. ولشدة ما أؤمن لا أعود أؤمن بشيء. ولشدة ما أحب تعود حلب حين لم تكن الحرب، فيقترب منكِ الذي كان يرتدي قميصاً أبيض على بنطال أسود بقرنفلة دبقة يشْكِلها في عروة المانطو العليا، ثم يستدير عند مدخل الحديقة العامة ليُسْقِط لكِ قطعة نقود معدنية في آلة الموسيقى، فتغني عزيزة جلال في الكرنك، ويغني بكري الكردي عن الرسائل، ويشمّرُ جميل هورو عن ساعديه لا ليغني بل ليمسك الأفاعي، ويوصي أن يكون قبركِ في أسفل التلة، وأُوصي معه بقبري بجانب قبركِ، وأن يُفتح القبران على بعضهما، لأصبحَ شمساً في عظامكِ، رجفةً في دعائكِ، وجهاً في عينكِ، ولتحيا يدي من بعدي وتزحفَ حتى تغفو بين الصدر البارد والكفن المبلل، فتضحكين وتعلقين:
كل الرجال يبدون جميلين بالأبيض والأسود،
كل الرجال يُريقون البيرة وهم يلعنون أعياد المدينة،
وكلهم يُوعدون وهم يشكلون القرنفل في العُرى العليا،
وثم:
لا ضرر في الحشيش،
لا سُقام في الإستسلام للقدر،
ولا أذى في يا ليل يا عين حتى أرى أن الحياة التي أفسدتها ستنتهي بطلقةٍ في الظهر، بانحناءة الركبة في الندم، بالخوف من الماء، بإهانة. ولذلك لا بأس من مراوغة الخسارة، وأن نشارك الله في تدبير النهايات، وأن نحدّق في الدم، في اللامعنى، في الفكرة البيضاء يمكن أن تصبح سراً في البحر،
سكيناً على العنق،
عرقاً على البطن،
طيراً يحوم فوق باب الفرج نحو أبراج القلعة،
ولا بأس أن تضحكي،
اضحكي وأنا أحدق في الأرض حتى أملكها،
اضحكي حتى أرى قدمي قد أراقَ دمي.
* كاتب سوري