عزيزي الحالم، استيقظ. لا شيء من هذا. كل هذا مجرد حلم، لا تماثيل في الساحات. طلاب المسرح محتجزون داخل القاعات الباطونية، يستمعون لإنجازات أساتذتهم التاريخية. طلاب السينما يجلسون في الكافيتيريا. يناقشون الأفلام التي شاهدوها. الأستاذ قد لا يأتي اليوم. ولا صوت للآلات الموسيقية. الموسيقى ممنوعة في معهد الفنون الجميلة. وحتى كذبة صورة المخرجين بعيدة عن الواقع. في معهد الفنون تعلق فقط صور للشهداء وأعلام حزبية. وعند أقسام الهندسة المعمارية والداخلية روتين مدرسي. طلاب يجلسون أمام أستاذ أو أستاذة، حيث ينصتون بهدوء.
ستة وستة مكرر

معهد الفنون ليس بعيداً عن الانقسام والتوزيع الطائفي في لبنان. بين الفرعين الأول والثاني، يبدو الانقسام جلياً. في البداية، ما حاجة مدينة كبيروت لمعهدين للفنون الجميلة؟ لا يبعدان عن بعضهما سوى اثنتي عشرة دقيقة وخطي تماس. الفرع الأول شيّد داخل المدينة الجامعية في المنطقة الفاصلة بين «الحدث» و «حي السلم»، والفرع الثاني في فرن الشباك وكنيسة قديمة ذات جمال معماري ملفت. ولوجودنا في بلد «طائفي»، بكل المعايير، وجب إنشاء معهدين، أحدهم يلوّن بغالبية مسيحية، وآخر للـ»محمودات». والتقسيم لا يقتصر على الطلاب فحسب، بل يتعدى ذلك للأساتذة، ويتبع كوتا معينة بين الفرعين، لذلك لا تتنوع الطوائف كثيراً في الفرعين، فيحافظ الى حد ما كل فرع على هوية المنطقة الخاصة فيه، مع استثناء بسيط في الفرع الأول. يقال إن «إدوار» الذي لا ينجح في الحصول على مقعد في فرن الشباك، يرضخ للأمر الواقع، ويسجّل مع «محمود» في الفرع الثاني. و«محمود» في الأساس، ليس بوارد الذهاب إلى فرن الشباك.


غير مطابق للمواصفات

مجلس طلاب الفرع محتل من قبل شباب حركة أمل في الجامعة اللبنانية. في 2008، أطاح شباب حركة أمل بالمجلس الطلابي المنتخب الذي حققوا فيه أقل من النصف، فالواقع أنه فازت لائحة تكتل المسرح بأربعة مقاعد ولائحة حزب الله والمستقلين بالمقاعد الباقية. افتعل خلاف آنذاك وألقيت المسؤولية على المجلس، فقام الشباب بتقديم طعن في الانتخابات لمدير معهد الفنون، أكرم قانصوه، الذي وافق على الطعن، شرط أن تكون العريضة موقعة من نصف المجلس «زائداً واحداً». تقول الرواية التي يعرفها الجميع هناك إن توقيعين أو ثلاثة زورت، فأمر مدير المعهد بحلّ المجلس تلقائياً، ولم تجر من ذلك الحين أي انتخابات. وسيطرت حركة أمل على مكتب المجلس. علقت فيه صوراً لرموزها وصار أشبه بملك خاص. يجتمع فيه المنتمون وحسب. ليس مجلساً للطلاب إذاً. وإذا أردنا التحدث عن النشاطات فحدّث ولا حرج، معظم نشاطات الفنون تتخذ الطابع الحزبي أو الطائفي المصبوغ بصبغة المنطقة المحيطة بالتأكيد. وإذا ما أردنا التطرق للفرع الثاني، فإن للنشاطات فيه مقاربات أخرى. في البداية ينقسم فيه ممثلو الطلاب، بعضهم لحزب القوات والكتائب اللبنانية، وآخر للتيار الوطني الحر. ولكن بعكس الفرع الأول، فإن هذا الانقسام لا يغذي خلافاً أو حقداً بين الطرفين، بل يحثّ كلاهما على المنافسة أكثر من حيث خلق أنشطة قريبة للطلاب ومنوعة «تليق» بالحد الأدنى بطلاب معهد «فنون جميلة».


هل قلت تجهيزات؟

من الطبيعي أن يصاب الطلاب بحالة من اليأس. عندما يحين موعد المطالبة بمعدات تقنية تتيح لهم دخول سوق العمل، تحدث المفاجآت المتوقعة. في الفرع الأول، وفي قسم السينما تحديداً، معدات بدائية: كاميرتان قديمتان لا تصلحان لتصوير تقرير تلفزيوني، ومعدات إضاءة تعمل «بحسب المزاج». يوماً بعد يوم، يتنامى «الحسد» الموجود بين طلاب الفرع الأول تجاه طلاب الفرع الثاني. لدى طلاب الفرع الثاني اتصالات افضل مع السفارات الأجنبية، لذلك، موّلت الدولة اليابانية لائحة ببعض المعدات الحديثة نسبياً، من كاميرات ومعدات صوت إضاءة وتوليف. وحسد كذلك لجهة البقاء في الحرم الجامعي. تخيلوا أن معهداً للفنون يقفل الساعة السابعة مساءً، فيما فرع آخر يبقى لوقت متأخرٍ. الحسد عينه ينقلب من جهة طلاب الفرع الثاني نحو طلاب الفرع الأول، إلى حد ما، صفوف وقاعات مجهزة بشكل لائق، من كراسٍ و طاولات وغرفتين مفروشتين بالباركيه لطلاب المسرح، فيما في الفرع الثاني لا شيء سوى الباطون والبلاط المكسر. قد لا يحالفك الحظ قبيل عملك على مشروع التخرج، فتكسر إحدى ذراعيك أو قدميك في فرن الشباك، لأنك في مدينة الباطون. وفي الشتاء لا يختلف المشهد داخل الجامعة عن الطقس في الخارج، الفارق الوحيد: «لا غيوم»، ولكن أمطار وشلالات تخترق السقوف والجدران لتضفي مشهداً ميلانكولياً، ربما من فيلم هنغاري أو يوناني.

لا حريّة حتى على الهامش

تمر ليلاً عند الساعة التاسعة والنصف بجانب الفرع الثاني، ترى نشاطاً سينمائياً فريداً يجرى بجوار المعهد. نعم تجد هذا المشهد العادي فريداً، لماذا؟ لأنك ببساطة من طلاب الفرع الأول، والنشاط السينمائي يكاد يكون مختفياً تماماً بعد تخطي بوابة معهد الفنون لا المدينة الجامعية، إذا ما أردت القيام بمشروع جامعي بسيط يتطلب أمكنة ومواقع عدة، فإنك بالتأكيد على موعد مع روتين إداري بيروقراطي للحصول على «إذن» أو موافقة، أو «موافقات» من عدد من الأشخاص، لماذا؟ لست مخولاً أن تعرف. إذا ما أردت السؤال قد يتم ربط تصوير مشروعك الجامعي البسيط بالصراع العربي ـ الإسرائيلي (مع المبالغة طبعاً). ماذا إن قررت الخروج خارج المدينة الجامعية للتصوير؟ يفضل أن لا تقوم بهذا الأمر بتاتاً أو حتى أن تفكر فيه. سيستدرجك سؤالك هذه المرة نحو غرفة تحقيقات ربما ويربط مشروع تخرجك بمؤامرة تجسسية تحيكها أنت ومن خلفك. هذه أشياء حدثت وتحدث. يمر هذا الهذيان للحظات في البال فقط عند رؤية ذاك المشهد أمام الفرع الثاني، وقد تفاجأ أكثر عندما تجد الدركي القابع على باب المعهد يساعد الطلاب في إدخال وإخراج المعدات. يعود شريط المشاهد الموجود على أبواب الفرع الأول، تضحك بينك وبين نفسك هازئاً، وتقرر ألا تنتقد مدخل المدينة الجامعية الأشبه بثكنة عسكرية. في العام الفائت، قرر طلاب الفنون التشكيلية الاعتصام أمام مكتب مدير المعهد للمطالبة بمادة حذفت من منهاجهم التعليمي للمحافظة على الأخلاق العامة. مادة «الموديل العاري»، الموجودة في الوقت نفسه في الفرع الثاني. لحظة بدء الاعتصام المتواضع، استنفرت القوى الحزبية في الجامعة وانتشرت بين الطلاب والمعتصمين، ناظرين نظرات «وعيد» توحي بأن شيئاً جيداً لن يحصل. وبطبيعة الحال منع مصور محطة «إل.بي.سي» من التصوير في البداية، علت بعدها أصوات المعتصمين أمام الإدارة، سمح آنذاك للمصور بالتصوير لمدة لا تتجاوز خمس دقائق. بعدها بأيام عدة أطلق مدير المعهد الدكتور أكرم قانصوه (المتخرج بشهادة فنون تشكيلية من معهد الفنون) تصريحاً نارياً بسيطاً وغير قابل للنقاش، إذا ما أردتم هذه المادة، بإمكانكم التوجه نحو الفرع الثاني وحضور المادة هناك بحرية تامة. «بديش وجعة راس هون».

ملاحظة: عزيزي القارئ، إن شعرت بأن هناك شيئاً من المبالغة في المقال، يتوجب التذكير بلامبالاة الجامعة أيضاً، تجاه كل شيء. شكراً.