يخال من يزور قرية كفرحي البترونية، أن بيوتها تتعّمد «التيه» بين المساحات الخضراء. في هذه البلدة، المحاصرة بالجبال والوديان، يسهل تعداد البيوت المبعثرة فيها، فعلى الرغم من أنها تعد من أكبر القرى البترونية مساحة، إلا أن عدد المقيمين فيها لا يتعدى ألف نسمة، وفق ما يقول رئيس بلديتها جورج عقل. هذا واحد من أسرار السكينة التي تسود البلدة حتى الآن، فضلاً عن أنها تحتضن ذخيرة «هامة» القديس مار مارون وتعد مركز انطلاق القديسين.
لم يدرك أهالي بلدة كفرحي أن الأراضي التي وهبوها لدير مار حنا مارون، كنذور عليهم، ستكون بعد سنوات بتصرّف كبار الرأسماليين والمستثمرين. الأخيرون سيتخذون من جبال القرية موقعاً طبيعياً متميزاً لإقامة «مدينتهم الاقتصادية الحرة»، أو بتعبير أوضح إقامة «جنة» لهم، يراكمون فيها المزيد من الأرباح والريوع على حساب حقوق العمال والدولة والبيئة.
يقول عقل في حديث مع «الأخبار» إن «هذه البلدة تحتضن أول كرسي لمار مارون، وهي من أجمل القرى البترونية، وعوضاً من أن تقدم مشاريع ترتكز على مزاياها القائمة وضرورة الحفاظ عليها وتطويرها، يجري زرع مشروع ملتبس وغير واضح بحجة خلق فرص عمل». يقول أحد أهالي بلدة كفرحي: «بدلاً من أن تقوم الرابطة المارونية بإقناع دير ما يوحنا مارون بوهب جزء مهم من أراضيه لإقامة مشاريع يستفيد منها المتمولون، كان عليها أن تبحث في كيفية مساعدة أهالي المنطقة، ولا سيما الشباب منهم، وتمكينهم من البقاء أو العودة إلى قراهم... أو تأهيل وادي نهر الجوز والمطاحن الأثرية والاستفادة من فرادة جمال الموقع وغيرها». ثمة تساؤل يطرحه الناشطون ضد إقامة «منطقة اقتصادية حرّة» في البترون، الذين لجأووا إلى تقديم عريضة احتجاجية، مفاده: «كيف لسلطة دينية أن ترعى مشروعاً سيشوه الطابع الديني والأثري والتراثي لهذه القرية؟».
اقتراح القانون المقدّم إلى مجلس النواب، والذي وافقت عليه الحكومة في جلستها الأخيرة، لم يحدد الموقع الجغرافي لإقامة المنطقة الاقتصادية الحرة في البترون، إلا أن فور تقديمه في العام الماضي، وضع راعي الأبرشية المارونية، المطران منير خيرالله، مساحات كبيرة من أراضي كفرحي التابعة لدير مار حنا مارون، بتصرف هذا المشروع.
أكثر من 70% من أراضي القرية، هي أملاك لهذا الدير، وتخضع لإدارة المطران خير الله، بحسب شروحات رئيس بلدية كفرحي، وجميع هذه الأراضي طبيعتها جبلية.
بحسب المعلومات المتداولة في البلدة، فقد أدت الرابطة المارونية دوراً مهماً في اختيار هذا الموقع، وكانت بمثابة راعي المشروع والوسيط بين المطران وعدد من المتمولين اللاهثين وراء الاستفادة من ريوع هذه العقارات والإعفاءات التي تمنحها «المنطقة الحرّة».

تعارض البلدية إقامة المنطقة الاقتصادية الحرّة في نطاقها

يقول عقل إن المساحة المعلنة هي 200 ألف متر مربع، إلا أن عضو اللجنة الاقتصادية في المجمع الأبرشي البتروني المحامي شفيق أبي صالح كان قد صرّح بأن مطران خير الله «وضع أكثر من 700 ألف متر مربع من أراضي كفرحي بتصرف المشروع». يعلّق أحد المطلعين على ملف المشروع بالقول: «ما دام قد صُرِّح بأن المساحة ستتجاوز 700 ألف متر، يعني أنّ من الممكن التصرّف بأكثر من مليون متر مربع»، لافتاً إلى أن المطرانية تملك أكثر من 3 ملايين متر مربع من أراضي موزعة على بعض القرى البترونية، مشيراً إلى أن المنطقة لن تكون محصورة في كفرحي فقط، وبالتالي الممكن أن «تتوزع» على بقية القرى البترونية عبر إنشاء فروع لها.
هذا الكلام يتوافق وما يقوله رئيس اللجنة الاقتصادية في الرابطة المارونية لوران عون، عن أن «العمل جار لتحديد عقارات أخرى في قضاء البترون، لأن المنطقة لن تكون في بقعة جغرافية واحدة».
في الواقع، لم يحدد القانون المساحة الفعلية التي ستشغلها المنطقة ولا حدودها. يقول عون إن اقتراح القانون «لا يلزم بإنشاء المنطقة الاقتصادية في بقعة محددة من البترون، بل ستوزع على بقع مختلفة، وإن منطقة كفرحي ستضم فقط برمجة الكومبيوتر والتدريب، أمّا الصناعات الخفيفة فقد تستقر في مواقع أخرى».
يسأل عقل عن المساحة الشاسعة التي ستشغلها المنطقة: «أكبر المناطق الاقتصادية الحرة لا تتعدى 40 ألف متر مربع، فلماذا التفريط بآلاف الأمتار؟». فيما يلفت بعض الناشطين إلى وجود «ملايين الأمتار المصنّفة مناطق صناعية على الساحل، وبالتالي كان يمكن تجنب التفريط بمساحات جبلية خضراء».
يقول عون إن الاستثمارات «ستكون صديقة للبيئة ولن تكون هناك مصانع ومعامل أو صناعات متوسطة وضخمة»، متعهداً أن أي خطوة لن تتم إلا بالتنسيق مع رئيس المجلس البلدي والأعضاء، إلا أن بلدية كفرحي تؤكد رفضها التام لـ»إنشاء المنطقة الصناعية في البلدة». هذا الموقف الحاسم يترجمه قرار المجلس البلدي الصادر في 14/3/2015 الذي يقضي بعدم الموافقة على المشروع، لما له من تداعيات ناتجة من الأثر البيئي والتاريخي والتراثي والديني على المنطقة، فضلاً عن «غياب البنية التحتية الملائمة للمشروع». وترى البلدية أن هناك «تعارضاً بين الأسباب الموجبة وما ورد في نص القانون حول طبيعة المشاريع التي ستقام»، وتلفت إلى «ورود كلمة صناعة في القانون، وهو ما يعدّ مفهوماً واسعاً ينطوي على انواع عديدة من الاستثمارات».
يكشف أحد الناشطين المعترضين أنه بخلاف ما يقال إن المساحة المقدمة من المطرانية هي عبارة عن «هبة»، فإن المطران «موعود بشيء في المقابل إذا ما جرى تنفيذ المشروع». هذا الكلام لا يستبعده عدد من أهالي المنطقة، الذين ما انفكوا يؤكدون «انتماءهم الديني وانصياعهم لتعاليم الكنيسة». هؤلاء يربطون مسألة حصول المطران على «مقابل» بما سمّوه «خبرته في استثمار الفرص»، وهم يستندون بذلك إلى إقدام المطران خيرالله على بيع ناتج الحفريات التي يقوم بها لتوسيع اراضي الدير.
ففي 16/12/2013 تقدّم المطران خيرالله بكتاب إلى رئيس البلدية يطلب فيه الموافقة على القيام بأعمال حفر لتوسيع مدخل المطرانية، والترخيص لاستعمال ناتج الحفريات ونقله وتكسيره بواسطة كسارة متنقلة لتأمين الكميات اللازمة من صخور وبحص لتوسيع الطريق ودعمها، «للحفاظ على سلامة المارة وزوار المطرانية، على أن لا تقل المدة عن ستة أشهر».
أكثر من سنة مضت على تاريخ إعطاء الرخصة بالحفريات، ولا تزال أعمال الحفر قائمة. يؤكد رئيس البلدية جورج عقل أن المطران خيرالله يقوم ببيع ناتج الحفريات ويستفيد منها، «علماً بأنه وعد باستخدام الناتج لتسوية الطريق». يقول عقل إن عمليات تفجير الصخور التي يقوم بها المطران خيرالله تشكل خطراً على السلامة العامة «ذلك أن الطريق التي يجري تفجيرها هي بمحاذاة الأوتوستراد والطريق العام». ويؤكد أنه قرر إيقاف أعمال المطران والإيعاز إلى الجهات الأمنية (فصيلة البترون وغيرها) بتنفيذ هذا القرار، إلا أن أياً من الجهات المعنية لم تُبدِ تعاوناً في هذا المجال.