تطالبون تركيا بالاعتراف بالإبادة. هل يعني ذلك، في حال حصوله، إغلاق هذا الملف؟■ كمسيحيين، الغفران في ايماننا وفكرنا، لكن حتى في اللاهوت المسيحي، الاعتراف يأتي أولاً، وهو باب أي مصالحة. بعد الاعتذار نتكلم بهدوء عن التعويض واستعادة ما لنا. التاريخ حافل بعدد كبير من الدول التي أجرت مصالحات. قداسة البابا الراحل طلب الغفران عن الحملات الصليبية، والسماح من اليهود عن اي اهمال تسبّب بالمحرقة. ألمانيا اعترفت بالمحرقة من دون خجل. والأمثلة كثيرة. لذلك لا ضير من الاعتراف واعادة الأراضي لأن سرقة الأراضي تعدّ بمثابة مجزرة ثانية. تكلمت عن هذه المسألة في محاضرة في جامعة إسطنبول، ونلت تأييد كثير من المفكرين، فضلا عن أن قوى تركية كثيرة تؤيد ما نطالب به وتعترف بصوابيته، إلا أنهم يخافون من ضرب أساس قيام الامبراطورية التركية.

هل تعوّلون على صحوة ضمير في المجتمع الدولي لتحقيق هذه المطالب؟
■ لم يكن هناك مجتمع دولي عام 1915. سكتوا وبصموا. وليس هناك من مجتمع دولي اليوم. الأصوليات التكفيرية تعيث فساداً في الشرق وافريقيا، وهم يستعملون الوحش لغايات سياسية ويقبلون ان يكون مسيحيّو الشرق «فرق عملة». نهجّر من سهل نينوى، من قرى الخابور والعراق، ومن قبلُ من فلسطين، ويذبح الأقباط والإثيوبيون في ليبيا، ويخطف مطرانا حلب، ويذبح المطران فرج رحو... الخ. الأصوليات تقتلع والغرب يعطي هؤلاء سمات دخول فيفرغ الشرق منا. الأسوأ هو دور تركيا الآن اليوم. هي، بطريقة أو أخرى، ترعى هذا الارهاب وتموّله وتسهّل له وتربّيه. انها إبادة جديدة و»سيفو» جديد. كل ذلك يجري تحت أعين العالم الذي يدعي أنه لا يعرف ولا يرى.

الأتراك يتهمونكم بالمبالغة في أرقام الضحايا؟
■ الدم ثقيل، لا يمكن محوه. الموضوع ليس أرقاماً. الجريمة جريمة والإبادة إبادة سواء سقط مئة ألف أو مليون. هناك مذكّرة رسمية قدمها البطريرك السرياني افرام الأول برصوم عام 1920 وهي محفوظة في أرشيف الخارجية البريطانية تؤكد مقتل حوالي 300 ألف في 366 قرية، وتدمير 160 كنيسة وديراً، وقتل 154 كاهناً ورجل دين. هؤلاء كلهم قتلوا وهم ابرياء وعزّل وغير محاربين. لم تقاتل سوى ثلاث قرى هي آزخ وبسرنة وعين ورد، والأخيرة ضيعة جدي. الأتراك لم يقبلوا حتى رأي قداسة البابا فرنسيس، ويعدون ذلك مزايدة. يهاجمون أي برلمان يؤيد مبدأ المحاسبة، وهم في حالة انكار دائم.

ولكن يبدو الأمر وكأنكم حبيسو الماضي. ما الذي سيتغير سواء اعترف الأتراك بالابادة واعتذروا أم لم يفعلوا؟
■ في ذاكرة عقلنا المسيحي المشرقي ما حصل ابّان السلطنة العثمانية، سواء سمّيناه إبادة أو مجزرة أو مذبحة أو مأساة تهجير أو ترحيل، هو اقتلاع لشعب أصيل من موطنه التاريخي بقرار رسمي. هذا الأمر محفور فينا، يمكن رؤيته على جدران منازلنا، ولا ندّعيه أو نؤلفه. ما يدمي ان المجرم لا يريد حتى الاعتراف، ولا ان يتحمل أي مسؤولية. وكأن الشعب السرياني الآشوري الكلداني والأرمن جاؤوا في رحلة سياحية الى سوريا ولبنان! نحن لا نستثمر في دم الشهداء إلا في ساحة الشرف والحرية، ولا نستجرّ أحزاناً ولا نقبل انتقاماً ولا نحمل ضغينة. ذاكرتنا للمستقبل. يسأل البعض ماذا بعد مئة عام؟ مئتان وألف، لن ننسى.

ما الذي يمكن أن تقدمه تركيا الحالية؟
■ نريد من تركيا بدء صفحة مصالحات مع ذاتها وتاريخها. نريد منها إعادة ممتلكاتنا والمساهمة في حضور شعبنا في تركيا وفي الانتشار. حاول الرئيس رجب طيب اردوغان تقديم تعاز عما حصل، وكان رد فعلنا أن المطلوب أعمق بكثير. تشكيل الدولة التركية قائم على تنوع يضم السني والعلوي والكردي والمسيحي. ماذا لو عززت، مثلاً، مواقع أثرية دينية كدير مار كبريال قرب مديات أو فكرية كمنزل نعوم فايق في دياربكر أو سنحاريب بالي وهم من رواد الفكر السياسي عندنا. هلِ المطلوب الامعان في الجريمة من الآباء الى الأحفاد؟ ما يجري ضد مسيحيي الشرق من تهجير واقتلاع تحت أعين الأتراك وبمساعدتهم وبدعمهم ألا يعدّ سيفو جديداً؟ الجدار التركي صلب، عقلٌ لا يقبل التنوع ولا يقبل الآخر. حتى إنهم في بادرة غريبة، ورداً على المئوية، يحتفلون هذا العام وفي التوقيت نفسه، وفي تحد مريب، بذكرى معركة غاليبولي، وأرسلوا دعوات الى كل العالم للتغطية على احتفالات العاصمة الأرمينية يريفان.