عام 1977 صدرت رواية غونتر غراس «سمكة موسى» أو «الشبّوط» حسب ترجمة أخرى. وككل رواية أو كتاب يصدر له أو خطاب يلقيه، لا بد من أن يثير ضجة في الأوساط الثقافية في ألمانيا وأن تصل أصداء هذه الضجة إلى الصحف في باقي أقطار العالم. وقتها، كنت لا أزال طالباً في الثانوية واهتماماتي الأدبية قراءة وكتابة في أوج زخمها. وهكذا اقتطعت صورة غلاف كتابه الذي رسمه بيده، من جريدة «الجمهورية» البغدادية التي نشرت تقريراً عن الرواية، وألصقتُه على بوابة صندوق خشبي صغير يضم كل كتبي، وبقيت أتأمل الغلاف في الغرفة الطينية الرطبة التي أتشارك مع أشقائي النوم والحياة فيها في تلك القرية. وهكذا أصبح غونتر غراس هاجساً بالنسبة إلينا. لم نقرأ له أي شيء تقريباً، لكنه أضحى حينها كأنه ضمير ألمانيا وأصبح حاضراً في خيالنا وفي أحاديثنا اليومية كأنه واحد من بيننا. لن أنسى مشهد ذلك الصديق الذي عاد من فرنسا بعد زيارة قصيرة وهو يحدثنا عن أشياء تفوق خيالنا وتصوّرنا. ومن أجل امتحانه سألناه إن كان قد قرأ رواية غونتر غراس الجديدة: «الشبوط»؟ فأجاب ببديهية واضحة: نعم، وحين أردفنا: ولكنها لم تترجم إلى الفرنسية بعد؟ فعلّق كأي كذّاب موهوب بأنه بقي أسبوعاً مع المترجم وهو يترجم وصديقنا يقرأ.
لم أكن أعرف بأن قدري سيقودني إلى ألمانيا، وبأني سأتابع غراس عن قرب، كقارئ يهيمن عليه شغف قراءة كتبه ومقالاته ومشاركاته في الحياة الألمانية والعالمية وأيضاً كناشر لكتبه بالعربية في ما بعد، وأن أُعايش الجدال بمستوياته المختلفة في مناسبة صدور كلّ كتاب جديد له، أو حتى خطاب، نعم مجرد خطاب احتفائي بالروائي التركي يشار كمال مثلاً، بمناسبة فوزه بـ»جائزة السلام» الألمانية، قد يؤدي إلى أزمة سياسية بين ألمانيا وتركيا، وبين غونتر غراس وحكومة المستشار الألماني هلموت كول يومها.
في بداية عام 1999 جرت مفاوضات بيني وبين ناشره المخلص شتايدل لغرض ترتيب ترجمات عربية لأعماله في «منشورات الجمل»، ووُقِّع عقد عام في أبريل 1999، مقابل مبلغ رمزي حسب الناشر الألماني، وهو مبلغ كبير بالنسبة إليّ كناشر صغير، بالكاد تدبّرته، على أن تُرتَّب عقود خاصة لكل عنوان يُترجَم. وهكذا بدأت العمل مع صديقي الكاتب العراقي حسين الموزاني، الذي أخذ على عاتقه ترجمة روايته الأولى والأبرز: «طبل الصفيح». لكن ما إن حلّ شهر أكتوبر 1999 حتى نال «جائزة نوبل» للآداب التي تعني في ما تعني لناشريه في أغلب دول العالم مبيعات كبيرة بالطبع.

كانت له مواقف
واضحة من اضطهاد الكتّاب والمفكرين
في العالم
لكن بالنسبة إلى ناشر عربي، كانت بمثابة كارثة حقيقية، فقد نُشرت بعض كتبه في طبعات غير قانونية في دور نشر أهلية وحكومية في مصر وسوريا والعراق، وذهبت كل الشكاوى والرسائل التي أرسلتها إلى المؤسسات الرسمية والنقابات حول حقوق الملكية الفكرية في مهب الريح...
نشرتُ له بالعربية حتى الآن: «طبل الصفيح»، «القط والفأر»، «أعوام الكلاب»، «مئويتي»، و«في خطو السرطان». لم تنفد إلا طبعة «طبل الصفيح» الأولى وأُعيدت طباعتها بعد أكثر من عشر سنوات على صدورها الأول.
غونتر غراس كاتب صعب، جملته طويلة، وعالمه يبدو كأنه عصيّ على القارئ العربي. هو يبدو في كتابته كأنه خليط بين توماس مان وجيمس جويس. لا أعرف مدى انتشاره في اللغات الشرقية، لكنه بقي محدود الانتشار في اللغة العربية، وهذا لا ينطبق عليه وحده، بل ينطبق أيضاً على أعمال كاتبة ألمانية ممتازة هي كريستا فولف أو أعمال الكاتب النمساوي بيتر هاندكه أو حتى روايات السويسري ماكس فريش أو كاتبتي نوبل: الفريده يلينيك وهيرتا موللر. وبالطبع، هذه حال الأدب السردي الألماني الأحدث أيضاً. قد يضع المرء اللوم على الترجمة، وهذه يمكن أن تصحّ على كتاب ما، لكن لا يمكن تعميمها أبداً. بعدها، فترتْ همتي وقررت التوقف عن مواصلة نشر ترجمات لأعماله.
كانت لغونتر غراس مواقف واضحة من اضطهاد الكتّاب والمفكرين في العالم، وفي بلدان ما يسمى المعسكر الاشتراكي حينها، الأمر الذي اضطر أحياناً سفارات بلده إلى أن تدعوه إلى إلغاء تلك الزيارة أو هذه بسبب مواقفه «والبقاء في البيت». وعلاقته بالكاتب الألماني الشرقي أوفه يونسون (1934-1984) التي تكشف عنها الرسائل المتبادلة بينهما التي نشرت عام 2007، هي نموذج جميل وصادق. فرغم كون أوفه يونسون شخصية معقدة تقريباً وحساسة جداً، وتتبيّن هذه التفاصيل أكثر حين يوغل في تناول الشراب، إلا إنهما بقيا على تواصل حتى وفاة الأخير في إيرلندا، بعد انفصاله عن زوجته، التي اتهمها بأنها جاسوسة للمخابرات التشيكية أو شيء من هذا القبيل. حينما كان أوفه يونسون يعاني من الجدْب أثناء الكتابة، وأنه في طريق مغلق، يقترح غونتر غراس على ناشر الأول زيكفريد أونزلد الفكرة التالية: أن يفتعل الناشر منحةً للكتاب في نيويورك، وسيتكفل غراس بتمويلها، شرط إبقاء الأمر سراً، لكي يتمكن أوفه من تجاوز الطريق الإبداعية المسدودة التي وجد نفسه فيها. وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، ففي خضم اهتمامه بالكتّاب المضطهدين، قرر عام 1970 استضافة شاعر روماني شاب اسمه: غونتر شولتس في بيته، وكانت علاقاته النسوية ربما قد أسهمت في فتور علاقته بزوجته، راقصة الباليه آنا غراس، وعلينا أيضاً عدم نسيان انتشار الوعي النسوي آنذاك، الأمر الذي أدى إلى قيام علاقة بين الشاعر الروماني الشاب وآنا غراس، الأمر الذي جعل إقامة غراس في بيته ببرلين غير محتملة، ودفعه إلى ترك برلين في ما بعد والطلاق. أما الشاعر الروماني الشاب، فقد افتتح شركة تاكسي في برلين، وقد بحثتُ عنها قبل أعوام بسبب الفضول ووجدتها ما زالت قائمة في برلين.
لسنوات كثيرة حضرتُ أمسيات، بناءً على دعوات خاصة، كان غونتر غراس هو المتحدث الأساسي فيها، أو الشخص المحتفى به، وكانت دائماً أمسيات غاصّة بالزوار، وبالعديد من شخصيات «الحزب الاشتراكي الديموقراطي» البارزة، الذي انتمى إليه غراس واستقال منه في ما بعد، وربما بسبب زهدٍ ما، أو خجلٍ موروث لم أقدّم نفسي له قط.