في الحديث عن بداياتي الشعرية، يسعني القول إنني لم أبدأ شاعراً بل ناثراً. فقد شرعتُ في كتابة بعض التعليقات المتاحة للقراء في ملحق النهار للشباب آنذاك، أي منذ عام 1974، إثر الإضراب الذي نفذه طلاب «إكليريكية غزير» البارز، تضامناً معهم، وأنا كنتُ قد غادرته في العام الماضي. كان أمراً غريباً وقدرياً أن يرد اسمك على صفحة الجريدة منتقداً وذا صوت صارخ ضد ظلم تشهد له من بعيد. وبعد الحرب الأهلية، وكان عمري 20 عاماً، كتبتُ قصصاً ونشرتُ بعضها في مجلة «خواطر» التي كان يصدرها اسكندر داغر حينذاك. وبعد ذلك، توالت قراءاتي للشعر العربي الموزون والتقليدي خلال إعدادي الأكاديمي في كلية التربية، وكان لقراءة أدونيس، أستاذي في كلية التربية، ولرواد الشعر التموزيين من أمثال خليل حاوي وعصام محفوظ ويوسف الخال وغيرهم التأثير الأهم في البدايات. ثم مثّل اكتشافي لمحمود درويش النقلة الأخرى في قراءاتي للشعر الملتزم، الفلسطيني والعربي والعالمي.

غير أنّ القراءات الشعرية، على توسّعها المطّرد من السنة الجامعية الأولى حتى إعدادي رسالة الماجستير عن شعر جوزيف صايغ في كتابه «آن كولين كتبه لها جوزيف صايغ»، لم تُشرّط كتابتي الشعرية، وإنما رحتُ أنظم الشعر متأثراً بصورة لا واعية بالشعر الصوفي أو بالشعر الحرّ ذي المنحى الصوفي، وقد نشرت أغلب هذه القصائد في جريدة «الأنوار» حيث كنت أعمل لفترة قليلة لم تتجاوز السنة. قصائد لم أعد أعرف شيئاً عنها، كأنها ذكرى قديمة عن شخص آخر ما عدتُ أمتّ اليه بصلة. والحال أنني، وبتأثير من منهج أنسي الحاج والعديد من شعراء مجلة «شعر» ممن كانوا لا يزالون فاعلين، انصرفتُ الى قراءة الشعر السريالي الفرنسي، وإلى ترجمته على مدى خمس سنوات متتالية إلى منتصف الثمانينيات. وكنتُ قد راكمتُ عدداً كبيراً من القصائد، ومزّقتُ العدد الأكبر، حتى تراءى لي أن أطبع كتاباً مما ظننتُ أنه مجموعة شعرية متجانسة نوعاً ما. وقد سميت الكتاب «نباتٌ آخر للضوء». بالطبع ، لم يكن لي في حينه أي صلة بدور النشر، وكانت طباعة كتاب لشاعر مبتدىء أمراً ميسوراً نظراً لتكاليفه المتناسبة مع ما كنت أتقاضاه من التعليم. غير أنّ الكتاب كان صادماً للعديد من النقّاد الذين قارنوا بين ما كنتُ قد نشرتُه من قصائد أولى في بداياتي على صفحات «ملحق النهار» قبيل صدور الكتاب، وكانوا يشجّعونني على المثابرة في الكتابة، مثل وديع سعادة الذي أفرد لي ذات يوم صفحة كاملة معرّفاً بي وبالشعر (قصائد النثر) الذي صرت أكتبه، وبعد صدور الكتاب الذي اعتبرته كرنفالاً ومعرضاً شديد التنوّع للصور الشعرية الى حدّ اختناق المعنى، برغم أنني ظننتُ أن الصوَر المبتكرة كفيلة وحدَها بحمل الدلالات الغنية والموضوع المبتكر. وكان هذا الكتاب أول انتكاسة وبدء التجربة الأسلوبية ومسار الاتقان الذي تواصل منذ ذلك الحين. ولدى النظر من جديد في القصائد التي تضمّنها «نبات آخر للضوء» الذي صدر عام 1985 يجدها القارىء ذات دلالات على كائن (أو ذات الشاعر) متوارٍ خلف المشهد، وفي باطن الحالة والجماعة المصوّرة، ولم يكن في مقدّم المشهد وأول الكلام وموضوعه. غير أنّ تشابك الصور وابتكاريّتها، أو سورياليّتها المفرطة، أوحيا للقارئ غير الدّرِب بمجّانيّتها أو فراغها من الدلالة، فيما أنّ دلالة الصور كامنة، كما بتنا نعرف بفضل علم الرموزية أو السيميولوجيا في مستويات النص وتضاعيفه.

كان الكتاب أول انتكاسة وبدء التجربة الأسلوبية ومسار الاتقان الذي تواصل منذ ذلك الحين

وهذا ما لم يكن أحد من مجايليّ قادراً عليه، لافتقارهم في حينه الى الخبرة النقدية الأكاديمية، أو لاكتفائهم بنماذج من الشعر السريالي المبسّط، من مثل بول إيلوار أو جاك دوبان أو لوتريامون أو غيرهم، بينما كان يسعني أن أترجم، كتمرين مهنيّ فحسب، لتريستان تزارا وأنطونين أرتو وهنري ميشو وفيليب سوبو ورينيه شار وغيرهم. وللدلالة على ذلك، يمكن أن أستعيد من تلك المجموعة الأولى نصاً مثل «وجهةٌ للباعة»: باعةٌ في أيّ اتّجاه/ كانوا يلطمون الأشجارَ المتعبة/ الأصواتُ المحمولةُ على مراهناتٍ/ والبحّارة يقشرون القارّة المبيضّة/ في التراب المختلط كانت تفِدُ/ حيواناتٌ رقيقةٌ تعلّق/ بينَ شُعَل خلفَ المتاحف/ مغنّون وأوبئة/ هكذا يأتلف السكّانُ/ بلهفةٍ/ يتقلّدون الرّواق غير التام/ دونَ هجرة حادّة/ أو عناقٍ صامت/ ظلالنا حولَ أشراكٍ متواضعة/ والقتالُ الجوفيّ ما زال بعيداً/ للستائر مساءٌ مثل دمٍ/ عميق». أو نصاً آخر بعنوان «خيطٌ ضعيفٌ للمهارة»: «الخيوطُ التي هرّبت النّحاس تحرسُ القاعد/ في الوسط – حيثُ أتاح الضّجيج خلطاً/ واضحاً للخطوات المنقطعة/ مثل تبديلٍ في وضع العنق/ الذي يُحاط أيضاً بالاستعداد الضعيف النبرة/ ثمة إذاً، معرّضون للإصبع المحلّاة/ في الخزانة تُولّف مهارتي في حساب أقلّ الظلال دعابةً/ كان يجب الابتسام للخطوط الصفراء/ التي ميّلت المعرضَ بسيولة الشفاه/ بل الأصعب/ تنقية الصوت الذي يضرب قُفّاز العين المجهّزة/ بقبّعات مثنّاة كحرير القيلولة/ من الأزرار المرغمة بإبطٍ يصعد فوضوياً/ المشاهدون على البياض الذي أثبته توقّفي الثامنُ عن كلّ ما هو/ سهل الإنارة أو السّير/ يدايَ قائدتا مسامير وطاولات مفعمة بالحاجة البعيدة/ إلى فسحة خالية/ أدرك تماماً ما تظنّه الواجهات أكثر ولعاً بالنظر الى الحافلات/ وهي تسكب، شيئاً فشيئاً، أسلحة الظّلال المرهوبة/ حتى إصبع الشارع/ وأذكر، مع ذلك؛ موهوبون/ يلقون بثوب خطري ويجرّونني الى الصّدر الخشبيّ/ للسرير حيث تواصل زرقة عملي طلاء المروحة/ وتعجيل النور لسرقة السترة».
بالعودة الى الكتاب الأول، فقد يلاحظ القارئ تفاوتاً في الأجواء من قصيدة الى أخرى، وتبدّلاً في الأساليب يعود الى إرادة خفية ربما بإعلان استعدادي للخوض في تجربة جديدة، هي تجربة قصيدة النثر التي تستلزم جمعاً للطاقات الكتابية، بل حشداً مبهراً للقدرات والصور والإيحاءات، على ما كنت قد تملّيته من قراءاتي عن السريالية والشعراء السرياليين الذين ما برح مجايليّ يبجّلونهم باعتبارهم قديسي العصر والنماذج التي يلزم محاكاتها في مستهل مشوارنا الشعري. غير أن الواقع الأسلوبي الذي استدللت عليه أنبأني أنّ الغالبية العظمى من هؤلاء الشعراء المبتدئين كانوا اختاروا نماذجهم بدقة، وهي نماذج أقرب ما تكون إلى الرومنطيقية السريالية منها الى السريالية ذات المنحى الصدامي. على أي حال، يمثّل كتابي الأول «نبات آخر للضوء» نقطة تحوّل ضرورية في مساري الشعري ومجالاً للتجريب والتجاوز والتجديد في آن واحد.