الأردن | هذا الموقف اختصر ببلاغة مآزق البلدان الصغيرة التي لا مفر لها من اتباع «الكبار» على الرغم من تعرض مصالحها المباشرة للضرر. فالأردن، البلد الذي يقوم على قائمتين أساسيتين هما الأمن (ولديه للمناسبة أقوى أجهزة الأمن في المنطقة) والسياحة التي تكاد تكون المورد الأساسي للبلاد، يتعرض باستمرار لخضات أمنية تؤثر على قطاعه السياحي بسبب وضعه وحجمه، وبالطبع الجغرافيا التي تجعله في مهب منطقة تخوض صراعات مصيرية، لا ينفع فيها الحياد ولا أمن الداخل فقط، إذ إن السائح الأجنبي لا يفرق بين بلد وبلد في جغرافيا تتداول وسائل الإعلام أسماء عواصمها مربوطة بأفعال "داعش" أو بالحروب الداخلية.
فبعد تفجير عام 2005 في فندق «غراند حياة» في العاصمة الأردنية عمان، والذي قتل فيه بين من قتلوا المخرج السوري مصطفى العقاد، وما تبع ذلك من شلل السياحة الأردنية لسنوات طويلة، بذل القيّمون هنا جهوداً حثيثة لإعادة بث الروح في جثة السياحة. لكن، ها هو فيديو قتل داعش للطيار الأردني معاذ الكساسبة يعيد الثقة بأمن البلاد الى المربع الأول، في ظل التهاب الدول المحيطة به.
هكذا، وقع قرار الملك بالمشاركة في الحرب على اليمن وقوع الصاعقة على العاملين والعارفين بأمور السياحة الأردنية. أمر تسنّت ملاحظته خلال تجوالنا برعاية الهيئة عبر مواقع أثرية وسياحية، كان بعضها، للحقيقة، مذهلاً بنقيضين: عظمة الأثر وجماله، كما في البتراء وجرش ووادي رم، وبخلوه تقريباً من السياح!

اكتشاف "بترا"

«يعني فينا نقول تيتي تيتي زي ما رحتي زي ما جيتي»، يقول حسان، «سائق» البغل الذي كان يمشي خلفه حاملا بعض السياح. وحسان، وهو اسم مستعار، من عشيرة الحويطات البترائية. يروي الرجل أنه قبل وضع الدولة يدها على هذا الموقع المصنف الثاني عالمياً، والذي يزاوج بين جبروت الطبيعة والجهد الإنساني المذهل، كان بعض أبناء العشيرة يسكنون كهوف البتراء التاريخية ويعيشون من إرشاد السياح أو استضافتهم لليال في الموقع ذاته، وهو شيء لم يعد متوفراً اليوم بسبب توصيات منظمة اليونسكو التي تضع الموقع على لائحة التراث الإنساني الواجب حمايته.
يخبرنا الدليل أن البتراء اكتشفها عام 1812 رحالة سويسري يدعى يوهان لودفيغ بيركهارت، حيث إنه صاحب البدو مدعياً انه عربي قادم من الهند يريد تقديم أضحية لمقام النبي هارون القائم بالقرب من هنا. كان بيركهارت يتحدث لغة البدو وكان قد سمعهم يتحدثون عن مدينة خفية، فما كان منه إلا أن قام بتلك الحيلة لـ«يكتشف» البتراء!

يحلم الكثير من بدو البتراء
بمثيلات مارغريت وهي سيدة ايسلندية تزوجت بدوياً


وبالطبع، بيركهارت لم يكتشف البتراء بالمعنى الحقيقي. فقد كان أهل المنطقة يعرفونها، ولكنه عبر وصوله إليها جعل الغرب يكتشف هذا الأثر المذهل الذي كان مأوى العرب الأنباط بعد رحيلهم عن اليمن إثر انهيار سد مأرب، حسب إحدى الروايات التاريخية.
كثير من الشباب هنا، يعملون في السياحة كأدلّة، أو باعة، وأغلبهم، كما أخبرنا حسان وعلي، يحلمون فقط بسائحة أجنبية تأخذهم الى بلادها ليستطيعوا العيش «أخيراً»، كما عبّر أحدهما. «كلو هان بدو يسافر... مفيش شغل مفيش علم». لكن أليس من جامعات حكومية في المنطقة؟ ينفي الشاب (كان يكذب كما تبيّن لاحقاً). يقول إنه وصل إلى الصف الثامن ثم «شفت كل واحد معاه شهادة طولو وبعدين بيجي بيشتغل هان بالسياحة... طيب لأيش؟ نشتغل أحسن». يبرر بذلك عدم إكماله تحصيله الجامعي. يحلم الكثيرون من بدو البتراء بمثيلات مارغريت. وهي سيدة ايسلندية تزوجت بدوياً هنا وعاشت بين البدو تداويهم، كونها طبيبة، حتى مماتها. يشير علي الى شاب كان يقف أمام مغارة بعيدة «انظري هذا ابن مارغريت».
كتبت السيدة كتاباً عن تجربتها، تباع نسخه على بعض الطاولات التي تجلس خلفها سيدات بدويات موشومات الجبين أو الذقن. هل كانت تحلم بأن تكون لورانس العرب الثاني؟ لا أعرف.
تبهرك البتراء بأمور ثلاثة: الأولى نظام قنوات الري وخزانات المياه التي كانت تموّه من أجل الحفاظ عليها من الأعداء، وبطبيعة السيق أي الممر الطبيعي المتأتي من انفلاق الجبل الى نصفين على الأرجح بزلزال، والمؤدي بعد حوالى 2 كلم الى مدخل مدينة البتراء. كما تتميز بالصخور ذات الألوان المتدرجة الوردية والزرقاء بسبب رشح الصخر للمياه الآتية من جوف غني بالمعادن كالحديد. إضافة الى العمل الإنساني المذهل في نحت الصخور إما لغرض الدفن أو لجر المياه أو للزينة كالواجهة الشهيرة المسماة خزنة. في الموقع كنيستان، وفي الأعالي مبنى ضخم منحوت في الصخر يقال له المحكمة، ويمكنك الصعود إليها عبر 950 درجة منحوتة في الحجر، والغالب أن يصعد إليها السياح مع دليل على ظهر البغال.
وتُعدّ البتراء أكثر الأماكن جذباً للسياح على مستوى المملكة. لذا بدت حين قصدناها، ولمن زارها من قبل، خالية بشكل مفجع. تقول رنا «حين كنت آتي الى هنا، كان الناس يتدافعون لشدة الازدحام: انظري الآن... السياح يمكن تعدادهم بالعشرات».

مواقع رائعة

بالطبع، يتمتع الأردن بمواقع رائعة أغدقتها عليه الطبيعة والتاريخ: فمن البحر الميت المدهش كظاهرة طبيعية والذي ينخفض مستواه باستمرار بمعدل متر كل سنة، حيث يمكنك أن تشاهد مدينة أريحا المحتلة من ضفته الأردنية، إلى وادي معين وشلالات المياه البركانية الساخنة والشافية التي يتدافع إليها الأردنيون والسياح سواء بسواء، الى وادي رام الرائع بغروبه الأسطوري المذهل وجماله الصحراوي، الى جرش المدينة الرومانية الأكمل (جراسا اسمها الروماني)، كونها كانت مدفونة تحت الرمال حتى اكتشافها لسبعين سنة خلت.
وفي جرش، حيث غنت فيروز في مسرحها الجنوبي الذي يتسع لخمسة آلاف متفرج، ننتشر وبعض الوفود السياحية نتأمل عظمة الماضي. وفي المسرح، أسفل المدرجات الرومانية العالية التي يبدو على بعضها نقوش أرقام باليونانية القديمة كانت تستخدم لحجز المقاعد لوجهاء القبائل، يوجد مربع إذا وقفت عليه وتكلمت فإن الصوت يصل الى أماكن بعيدة. فجأة، وإذا بثلاثة رجال من البدو يدخلون وفي أيديهم آلات موسيقية هي القربة (الاسكتلندية التي أدخلها الإنكليز الى مستعمراتهم) والطبل والمزمار. وإذ... بدأوا بعزف مقطوعات أجنبية على الأغلب تدربوا عليها من دون معرفة ما هي. تنساب فجأة أنغام أغنية أجنبية نعرفها جيداً. إنها أغنية «فريرو جاكو» الفرنسية.
يقول الدليل إنهم، أي هيئة إحياء التراث في جرش، يقومون اليوم بعروض رومانية للسياح. منها استعراض فيالق رومانية اللباس والسلاح والعربات. كما يتصارعون كما كان المجالدون يفعلون (غلاديايتور) قديماً حتى الموت. يبدو موظفو الاستعراض بوجوههم السمراء التي تلتمع عليها حبات العرق تحت شمس قوية، يعانون من الحرّ تحت خوذهم المعدنية ولباسهم العسكري.
من جرش الى مادبا، ميدنة الفسيفساء، هناك تقع كنيسة الخريطة أو كنيسة القديس جاورجيوس الأرثوذكسية. وهي سميت كذلك لاكتشاف أول خريطة في التاريخ فيها.

يتمتع الأردن بمواقع رائعة وفريدة في تنوعها أغدقتها عليه الطبيعة والتاريخ
وهي خريطة فسيفساء تمثل العالم المسيحي أيامها. وفيها تبدو القدس أو أورشليم مدينة عامرة، حيث أفرد لها الفنان مساحة خاصة تدليلا على أهميتها ورسمها بأسوارها وأبوابها وشوارعها المتعامدة مع شارعها الرئيسي (كاردو) كما تصور الخريطة البحر الميت والمتوسط ونهر الأردن، وصولاً الى دلتا النيل. ويستدل علماء الآثار منها على أن المغطس، أي مكان عمادة السيد المسيح، هو في الحقيقة قائم على الضفة الأردنية من نهر الأردن، وليس جهة فلسطين المحتلة. ومادبا مذكورة في الكتاب المقدس من بين ممالك مؤاب.

نهر الأردن وحبل بلاستيكي

أما المكان الذي كان له أكبر الأثر في قلوبنا فقد كان نهر الأردن. لم نكن نتوقع المشهد. فقد قال لنا الدليل إننا ذاهبون الى المغطس، أي المكان الذي عمّد فيه يوحنا المعمدان السيد المسيح. يمهد لنا الدليل أن المكان منذ انخفاض مستوى نهر الأردن لأسباب عدة، أصبح أشبه بمستنقع لأن المياه لا تجري فيه كما كانت تفعل في السابق.
وبالفعل، نصل الى المكان الذي تحيط به أربعة مربعات حجرية بمثابة أعمدة وبقايا قنطرة. أما في الأسفل فقد كانت المياه تبدو آسنة. ومع ذلك، هرع شباب وصبايا، مسيحيون ومسلمون الى ملء قنانيهم من المياه «المقدسة». لكن، ما إن تقدمنا الى حيث نهر الأردن، الذي من المفروض أن يمحو آثار القدم الهمجية، وإذا بالقدم الهمجية شخصياً على بعد أمتار قليلة. فوجئنا بالمشهد: كان العلم الإسرائيلي يرفرف فوق الضفة المحتلة والمستغلة أحسن استغلال سياحي! كان هناك حشد من الأجانب وقد لبس أفراده قمصاناً بيضاء طويلة طبعت عليها صور القديسين. كانوا ينزلون النهر لغرض العمادة، بخشوع كبير. جلسنا نتفرج عليهم. ثم ذهبوا كما أتوا، أما نحن فكنا ننظر الى المياه المقسومة بحبل بلاستيكي برتقالي في المنتصف طولياً بالطبع، بحزن من يعرف جغرافيا الدراما جيداً.
وإذا بوفد من الفلسطينيين والفلسطينيات يأخذ مكانهم! نصرخ من ضفتنا متشجعين بسحنهم السمراء وبحجاب بعض الفتيات «إنتو من وين؟» يجيبوننا «إحنا من القدس. يصرخ عباس «سنصلي يوماً معاً هناك» يصيحون: «وأنتم؟ نجيبهم: من لبنان. فيصرخون: عاش لبنان وأرزته. يقولون: تعالوا. نقول: أنتم تعالوا. يتشجع شاب من بينهم، يضع كوفيته متأهباً لنزول النهر، إلا أن الدليل يدفع به الى الخلف بلطف وهو يصيح مرعوباً: يا شباب. بالله روقوا يا شباب». نضحك ويضحكون. ثم تمتلئ العيون بالدموع ونحن نلوّح بأيدينا لهم مغادرين.
لو لم يكن في هذه الرحلة إلا هذا اللقاء، لاستأهل الأمر أن نزور الأردن.

بترا

أُسست البتراء في القرن السادس ق.م كعاصمة لمملكة العرب الأنباط. وكان لموقعها على طريق الحرير بين مصر وبلاد ما بين النهرين وفلسطين، دور كبير جعلها تمسك بزمام التجارة في ايامها. وكان الأنباط في بترا يؤمنون للقوافل المياه والراحة والمرور بسلام مقابل ضرائب «ترانزيت». ولقد بقيت المملكة حتى قام بضمها عام 64 ق.م. الرومان، وعدلوا في مدرجاتها وبنوا قوس نصر فوق مدخل السوق. تقع المدينة على منحدارت جبل المذبح. وعرفت غربياً باسم «المدينة المفقودة» منذ القرن 14م، حتى «اكتشفها» الرحالة السويسري بركهارت. وقد أُدرجت على لائحة التراث العالمي لليونسكو في عام 1985. كما اختيرت واحدة من عجائب الدنيا السبع عام 2007.

وادي رم

يقع وادي رم في الجزء الجنوبي من الأردن. وهو ذو طبيعة صحراوية رائعة. تعد المنطقة معزولة ولا يسكنها الا البدو، وهم يسترزقون من السياحة بإشراف الأدلاء السياحيين المحترفين. حيث يؤمنون جولات بسيارات الدفع الرباعي، اضافة الى نصب الخيم السياحية التي يستطيع المرء فيها تجربة حياة البدو من مأكل (طهو اللحم بطريقة الزرب او الطمر بالرمل) ومنامة خاصة، اضافة الى الرياضات الصحراوية. اما الأجمل فهو الغروب الخرافي هناك. يمكن للسياح القادمين من عمان او العقبة الوصول الى «وادي رم» عن طريق ركوب الجمال أيضاً.

شلالات معين

تعد شلالات معين البركانية الساخنة من أبرز محطات السياحة العلاجية. وهي تجذب السياحة الأجنبية والمحلية سواء بسواء. وتقع معين على 264 م تحت سطح البحر. ويأتيها السياح بالآلاف سنوياً للاستمتاع بالمياه الدافئة او الساخنة فعلياً، والمليئة بالمعادن. في المنطقة أيضاً منتجعات عدة توفر علاجات بالطين أو بالتدليك تحت الماء. وفي الشلالات هناك قسم مجاني للعامة، وعادة ما يكون مليئاً بالرواد الأردنيين في عطلة الاسبوع (جمعة وسبت). وعلى السائحات التنبه لو اردن ارتياد المنتجع المجاني الى ان التقاليد الاردنية المحافظة قد لا تريحهن إن ارتدين المايوهات هنا.


البحر الميت

محطة اساسية لا مثيل لها، هنا، حيث النقطة الأكثر انخفاضاً
في العالم (417 م تحت سطح البحر) بإمكانكم الاستمتاع بالقراءة مثلاً وانتم تعومون فعلياً على شبر واحد من الماء الشديدة الملوحة. فثقل المياه الغنية بالمعادن والكبريت والملح بالطبع، يجعل من المستحيل الغرق. ولكن يجب الانتباه الى العيون لأن المياه حارقة. وعليكم الاستفادة من حمام الطمي (الوحل) لفوائده العلاجية الكثيرة بخاصة الروماتيزم. والمنطقة وفنادقها غنية بالنوادي الصحية الممتازة. مثل منتجع البحر الميت وفندق كامبينسكي وموفنبيك. ويستطيع السائح زيارة جبل نيبو و(المغطس) اي مكان معمودية السيد المسيح، بجانب نهر الأردن.

الفنادق

الفنادق في الأردن عموماً مرتفعة الثمن بالنسبة إلى ذوي الدخل المحدود والمتوسط. لكن في المدن الكبرى تعتبر الفنادق المتوسطة جيدة. لكن في المناطق السياحية النائية يصعب ايجاد اقامة رخيصة، ففي البحر الميت مثلاً يبلغ ايجار الغرفة بين 100 و220 دولاراً. ولدى سؤال رئيس هيئة تنشيط السياحة الدكتور عبد الرزاق العربيات عن عدم اهتمام الأردن بالسياحة الشبابية والرخيصة، يخبر بأنهم وضعوا خطة ثلاثية للتركيز على هذا القطاع. أما السياح من ذوي الدخل المرتفع فتنتظرهم فنادق جميلة (كامبينسكي في البحر الميت مثلاً أو كراون بلازا). ويستطيع السياح محدودو الدخل إيجاد اقامة معقولة البدل عبر شبكة «آير بي اند بي».

الطعام

لمن يقدر السياحة الغذائية أو سياحة الذواقة، يقدم الأردن تنويعة مهمة من الغذاء المحلي. ويتميز بأطباق الصحراء كطهو اللحم بطريقة الزرب (الطمر في الرمل وهي متوفرة في وادي رم مثلاً خصوصاً في مناطق التخييم مع البدو). وسيستمتع السائح الذي يحب اللحم، بأجود انواع اللحوم المطهوة عادة على شكل مناسف، ولكن النباتيين لن يحرموا من ملذات الطعام هنا. فطبيعة الأردن من طبيعة بلاد الشام، اي أنها غنية بالبقول التي تدخل مكونات المطبخ الأردني، وتزوده بتنويعة من الأطباق الصحية. وشيئان عليك ابتياعهما من الأردن واسواقها الشعبية الجميلة قبل المغادرة: الزعتر والبن.