لا تحتاج الكتابة عن غسان كنفاني (1936-1972) إلى تمهيد أو تقديم. وبالرغم من مرور ما يقارب 44 عاماً على استشهاده، لا يزال حاضراً بشدة في المشهد الثقافيّ والأدبيّ. ربما لم يحقق كاتب فلسطيني آخر، إذا استثنينا محمود درويش، هذا الحضور القويّ منذ بداياته الأولى. كان كنفاني، ولا يزال إلى حد بعيد، بمثابة أسطورة فلسطينية أخرى، وقد كان موته المبكّر اغتيالاً بمثابة تكريس لهذه الأسطورة، ودعوةً صارخة لجميع القراء والنقّاد كي يدخلوا هذا العالم الثريّ لكاتب أبعد ما يكون عن مفهوم التخصّص الضيق، وأقرب إلى مفهوم «المثقف العموميّ» بلغة إدوارد سعيد. لم يترك غسان حقلاً كتابياً أو فكرياً أو نضالياً لم يغرق فيه، بحيث لم يكن مروره عابراً كمعظم الكتّاب، بل يكاد الجميع يتّفق على أنّ كنفاني لم يجرّب حقلاً كتابياً إلا أبدع فيه وتركه بصورةٍ أبهى مما كانت عليه. كما كان فوق ذلك كلّه أحد أعظم الأقلام التي كتبت عن فلسطين، قضية وشعباً، بحيث كانت الكتابة لديه سلاحاً يتوازى مع الرصاصة، إن لم يتفوّق عليها أحياناً.
في كتابه «غسان كنفاني: جذور العبقريّة وتجلّياتها الإبداعيّة» الصادر أخيراً عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»، يبحث الناقد والمترجم الفلسطينيّ محمد عبد القادر طرخان في عبقريّة غسان كنفاني، ويؤكّد انطلاقاً من المقدّمة أنّ كنفاني يستحق صفة العبقريّ لأنّه كان حالة استثنائيّة ندر مثيلها، وكان بمثابة «مؤسسة وطنية، ثقافية، سياسية، أخلاقية، فكرية وإنسانية عزّ نظيرها». ويدعم أطروحته تلك عبر الاستناد إلى مراجع في علم النفس والنقد بشأن مفهوم العبقريّة، وبخاصة لدى الناقد الأميركيّ هارولد بلوم الذي يميّز بصرامة بين الموهبة/ الإبداع والعبقريّة، ولدى الروائيّة البريطانيّة هيلاري مانتل التي تؤكّد أنّ عبقرية الكاتب تعني «إنتاج نص قادر على أن يعطي ويعطي، نص لن يُقرأ كاملاً أبداً، نص ينطوي على إمكانيّة لامتناهية في توليد معانيه»، وهذه، كما يشير الكاتب، إحدى أبرز نقاط تميّز وعظمة كنفاني. ثم ينتقل عبد القادر إلى المشهد العربيّ حيث يشير إلى أنّ صفة العبقريّ كانت لازمةً تكرّرت، حرفياً أو مجازاً، في حديث عدد من الكتّاب والمناضلين العرب على اختلاف توجّهاتهم السياسية، كالقائد الفلسطينيّ جورج حبش، والروائيّ والناشر اللبنانيّ سهيل إدريس، والناقد السوريّ عبد الرزاق عيد الذي يشير إلى أنّ كنفاني هو «أول يقين عربي يحقق الإجماع حول يقينيّته، ولعل يقين الشهادة ساهم في ترسيخ هذا اليقين».
ينتهي القسم النظريّ من الكتاب، لندخل إلى العالم الإبداعيّ لكنفاني. سيلاحظ القارئ الجهد الكبير المبذول من محمد عبد القادر لتبيان مواطن عبقرية كنفاني الإبداعيّة والفكرية.

يقدّم الكتاب آراء نقديّة لعدد من النقّاد والأدباء بشأن تجربته وأعماله

لم يقتصر المؤلف، كما اعتدنا في معظم الكتب الاحتفائيّة، على نقطة وحيدة، بل بدا بانوراما شاملة عن جميع أعمال كنفاني الأدبيّة والفكريّة والنقديّة في لغةٍ لم تُخْفِ نبرتها العاطفيّة، وبقيت في الوقت ذاته مخلصة للأمانة العلميّة. يبدأ القسم التطبيقيّ بالقصص القصيرة التي يشير عبد القادر إلى كونها «ذروة الإبداع» عند كنفاني، شارحاً الثيمات والصراع والعناصر البشريّة وغير البشرية في تلك العوالم القصصية المدهشة، مؤكّداً أنّ هذا الثراء كان خاصاً بالقصة الكنفانيّة، ولم نجدها بوضوح في رواياته. ربما كانت هذه الإشارة هي الأولى من نوعها بشأن تأكيد أهميّة القصة القصيرة الكنفانية، إذ كانت معظم الدراسات قد ركّزت على الروايات أو الصحافة أو الجانب النضالي عند غسان، متجاهلة القصة القصيرة تماشياً مع النظرة السائدة عربياً إزاء «تفوّق» الرواية على القصة. ومع ذلك، يشدد عبد القادر على ريادة غسان في الرواية حيث «نقل الرواية الفلسطينية من مستويات التبشير والرومانسية والتقليد والخطابية إلى عالم الرواية الواقعية»، مشيراً إلى أن النثر الفلسطيني ولد مع غسان.
ينفرد القسم الأخير في الكتاب للحديث عن الجانب النضاليّ والفكريّ لدى كنفاني الذي توازى مع الجانب الإبداعيّ. كان غسان أول من اكتشف كاريكاتيرات الشهيد ناجي العلي، وأول من سلّط الضوء على شعراء الأرض المحتلة وأطلق عليهم التوصيف الذي التصق بهم في ما بعد، أي «شعراء المقاومة»، حيث يؤكد محمود درويش أنّ ولادته الحقيقيّة كانت متزامنة، إلى حد ما، مع ظهور اسمه في كتابات غسان الذي أفرد لأدباء وشعراء الأرض المحتلة كتابين هما «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966» و«الأدب الفلسطينيّ المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968». كان هذان أول كتابين من نوعهما، حيث عرّفا القارئ العربيّ بأسماء ستصبح شهيرة لاحقاً، وكانت مجهولة لديه آنذاك كمحمود درويش وسميح القاسم وإميل حبيبي وسالم جبران وتوفيق زيّاد. ثم أتبعهما كنفاني بكتابين آخرين رياديين أصبحا كتابين مرجعيين لجميع من جاء بعده هما «في الأدب الصهيوني» الذي كان الجذر الذي انطلقت منه الدراسات اللاحقة لهاني الراهب، وغالب هلسا، وعبد الوهاب المسيري. كان هذا الكتاب الأول الذي يميّز بين الأدب اليهوديّ والأدب الصهيونيّ، وبين أهمية الكلمة كأداة احتلال واستعمار وهيمنة حين لم يتردد في توصيف جائزة نوبل التي مُنحت للصهيونيّ شموئيل يوسف عجنون عام 1966 بأنّها «وثيقة بلفور أدبيّة». بعدها، صدر كتابه البحثيّ الأخير «ثورة 1936-1939 في فلسطين» الذي كان أول محاولة بحثية جادة للغوص في جذور الصراع الفلسطيني ــ الصهيوني، انطلاقاً من تلك الثورة التي شهدت أطول إضراب في التاريخ ضد سلطات الانتداب البريطانيّ.
سيجد قارئ «غسان كنفاني: جذور العبقرية وتجلياتها الإبداعية» الكثير من التفاصيل والمفاتيح التي ستساعده على فهم كنفاني بشكل أكبر. وبالرغم من أنّ الأطروحة الأساسية كانت عن تبيان عبقرية غسان، إلا أنّ الكتاب يقدّم آراء نقديّة لعدد من النقّاد والأدباء بشأن أعمال كنفاني. ربما كان هذا الكتاب هو المحاولة الأولى لجمعها ضمن بوتقة نظريّة واحدة في جهد بحثيّ كبير يُحسب لمحمد عبد القادر الذي سيترك القارئ في نهاية الكتاب في حالةٍ من الشغف لقراءة أو إعادة قراءة أعمال غسان كنفاني في ضوء جديد، وتذوّق عبقريّتها حتى بعد عقود على استشهاد مبدعها.