لحسن الحظ، توماس ترانسترومر (1931-2015) ليس مجهولاً لدى القارئ العربي. صحيح أن نيله جائزة «نوبل» عام 2011 وسّع دائرة شهرته عربياً، إلا أنّ الترجمات المتلاحقة لمختارات من قصائده تتالت مع بدء الألفيّة تقريباً، وصولاً إلى صدور ترجمة أعماله الشعرية الكاملة بترجمة قاسم حمادي عن السويدية مباشرةً عام 2005. أما عالمياً فقد كان اسم ترانسترومر حاضراً بقوة.
هو الشاعر السويدي الأبرز في جيله، بل يعدّه بعضهم أفضل شاعر سويدي على الإطلاق، بخاصة أن ترجمات شعره إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة بدأت منذ السبعينيات، وتزامنت الترجمات إلى 60 لغة أخرى لاحقاً مع صدور مجموعاته تباعاً، وصولاً إلى إصابته بجلطة دماغية عام 1990. جلطة تسبّبت بشللٍ نصفي في الجزء الأيمن من جسده أفقده النطق والحركة جزئياً، فعلّم نفسه الكتابة بيده اليسرى ببطء، لتكون حصيلة هذه التجربة الشاقة مجموعتين صدر آخرهما عام 2004.
تأخّر الاحتفاء بترانسترومر وتتويجه بـ «نوبل» ربع قرن تقريباً، إذ كان أحد المرشّحين شبه الدائمين لها منذ بداية التسعينيات، لا سيّما بعد فوزه بجائزة «نيوشتات» الدولية للأدب، التي تعدّ الأبرز بعد نوبل، عام 1990، إذ إن لائحة الفائزين فيها تبدو بمثابة لائحةٍ تقريبيّة لمرشّحي «نوبل». لكنّ التجربة المريرة للأكاديميّة السويديّة عام 1974 إثر الضجّة الواسعة التي أحدثها منح الجائزة مناصفةً للكاتبين السويديّين إيفند يونسون وهاري مارتنسون، جعل فرصة فوز أي كاتب سويدي (أو حتى إسكندنافي) ضئيلةً جداً، إلى أن نالها ترانسترومر بعدما بدأت الضجة تأخذ اتجاهاً معاكساً في التساؤل عن سبب عدم منحه إياها.
تنطلق قصائد ترانسترومر من رحم الأشياء، من الطبيعة والمفردات والأشياء اليومية المتداولة، بحيث يحوّل العادي والمبتذل إلى جوهر الشعر عبر المجازات التي يعدّ أحد أسيادها القلائل. تبدو قصائده الأولى أقرب إلى «الصوفيّة» حيث يخلع عن المسيحيّة قشورها الكهنوتيّة ويغوص في الروحانيّات، لا ليكتب قصيدة دينيّة بالمعنى المتداول، بل ليرفع من شأن التفاصيل العابرة نحو التألّق، ويحوّل الطبيعة الصامتة إلى قصيدة تضجّ بالمعاني وتنبض كأي كائن حي. لعلّ أدقّ توصيف لتلك القصائد أنّه «يعرف الصلة المنقطعة للأشياء، كيمياء الحجر، وعالماً مُقنّعاً في الضوء الأعمى للرب» على حد تعبير الشاعر السويدي لاس سودربيرغ. يفكّك ترانسترومر التعقيد الظاهري للعناصر محيلاً إياها إلى عناصرها الأوليّة البسيطة، بحيث تبدو أكثر ألقاً بعد زوال البهرجة، حيث «كلّ إنسانٍ بابٌ مواربٌ يُفضي إلى غرفةٍ للجميع»، و«اليقظة قفزةٌ مظليّة من الحلم». أما السنوات «فتهوي مهمَلةً بسرعةٍ صامتة/ كظلال عربة الجليد، ككلبٍ ضخمٍ يمضي فوق الثّلج/ ويدرك الغابة». تخلّص ترانسترومر تدريجاً من آثار الصوفية مُبقياً على جوهرها الاحتفائي بالطبيعة في تقلّباتها الداخلية وسكونها الظاهري، وعلى البعد الإنساني الشامل الذي ينطلق من العناصر المشتركة بين جميع البشر، أي النظرة والآهة واللمسة، بعيداً عن قيود تباين اللغات والجنس والعرق، بحيث أصبحت قصائده اللاحقة أكثر سلاسة وتقشّفاً، أكان ذلك في المفردات أو طول السطور الشعرية.

الهايكو كان التطوّر
الطبيعيّ لقصيدته التي تحتفي بالتضاد والطبيعة والتقلّب في الفصول والأمزجة

ولذا يمكن اعتباره أحد الشعراء النادرين الذي لا تفقد قصيدته الكثير من وهجها عند الترجمة، بصرف النظر عن مدى جودة الترجمة، لتكون المحصّلة النهائية «محاولةً أخرى لتحقيق واقعيّة القصيدة الأصل». أي إنّ ترانسترومر يؤمن بواحديّة القصيدة وجذرها المشترك، بحيث تبدو قصائده كأنها آخر تجلّيات الملاحم الكبرى، مع التخلّي عن الصلابة والقوة الفائقة للأبطال وإعادتهم إلى جوهرهم الأصلي المفعم بالهشاشة والبساطة والرقة المتماهي مع أصل الأشياء بأسرها، أي الطبيعة، حيث «أنهض من عمق الغابة/ينتشر النور بين الجذوع/ على سطوحي مطر/ وأنا مزرابٌ للانطباعات»، لتنتهي القصيدة دوماً بالعزلة التي ستلد قصائد أخرى.
يصرّ معظم النقّاد والمترجمين على أنّ الشلل النصفيّ الذي أقعد ترانسترومر عن الكتابة بشكل شبه كلي هو السبب الأبرز لانتقاله إلى كتابة الهايكو. لكنّ المتابع المدقّق في تسلسل قصائده عبر السنوات سيجد بأنّ الهايكو كان التطوّر الطبيعي لقصيدة ترانسترومر التي تحتفي بالتضاد والطبيعة والتقلّب في الفصول والأمزجة، (دون أن ننسى أنّه كتب قصائد هايكو متفرقة في مجموعات قديمة) وهذه العناصر بالذات هي الحوامل الأساسيّة للهايكو، ولم يكن الشلل إلا عاملاً مساعداً في تصفية ذهنه من عمله الأساسي كمرشدٍ نفسي، والتفرّغ للتأمّل وكتابة الشعر، وإنْ بوتيرةٍ أبطأ قليلاً، لأنّه مقلٌّ أساساً في النشر إذ كان يصدر مجموعة كل أربع سنوات تقريباً. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هايكو ترانسترومر يبدو أقرب إلى الهايكو الأميركي (رتشارد رايت وسونيا سانشيز مثلاً) حيث توصيف السطح الظاهري لعناصر الطبيعة وأشيائها بذاتها، منه إلى الهايكو الياباني الذي يحتفي بالطبيعة كوسيلة للوصول إلى الغاية الفلسفيّة للقصيدة.
تبدو ترجمة قاسم حمادي، على أهميتها، متكلّفة أحياناً بحيث تنسف الهشاشة والتقشّف اللذين يسمان لغة ترانسترومر، وربما كان لمراجعة أدونيس للترجمة سببٌ في هذا.
إذ حين نقارنها بالترجمة الإنكليزيّة التي أنجزها الشاعر الاسكتلندي روبن فولتن (وهو مترجمه الأبرز إلى الإنكليزية) سنجد بأنّ القصيدة تكاد تكون مختلفة عن مثيلتها العربيّة. إذ يبدو ترانسترومر كأنّه كتب القصيدة بالإنكليزيّة أساساً، فيما نحسّ بوطأة الترجمة العربيّة في كثير من المواضع؛ الأمر الذي يكاد يكون سمةً عامةً للترجمات الشعريّة العربيّة التي تفترض ربما بأنّ القصيدة يجب أن تكون «جزلة» ومبهرجة اللغة. ولعلّ رحيل ترانسترومر قبل أيام يكون مناسبةً لإعادة أو تنقيح الترجمة العربيّة بحيث تصلنا قصيدته كما هي، لا كما تريدها الترجمة.