حين حصل توماس ترانسترومر (1931 – 2015) على جائزة «نوبل للآداب»، كان شعره قد تُرجم إلى أكثر من 50 لغة. الجائزة جاءت تتويجاً لذلك الشعر الصافي الذي وصلنا بأقل ما يمكن من الكلمات، الشعر الخافت والموارب وغير المحكوم بالأمكنة والأزمنة والهويات. لم تكافئ الجائزة جودة شعره فقط، بل ذكّرتنا بالشاعر الذي فاجأنا بأن ثمة أماكن لا تزال غير مأهولة بالشعر، وأن هناك أمزجة وتأملات واستعارات لا تزال تنتظر أن تصبح شعراً.
المدهش في هذه المفاجأة أن صاحبها لا يبدو متباهياً بها وهو يمزجها في قصائده القصيرة والقليلة. القلّة على أي حال كانت فناً شعرياً كاملاً بالنسبة إلى الشاعر السويدي الذي نشر قصائده في مجموعات صغيرة لم تتجاوز أي واحدة منها 25 صفحة. قوة شعر ترانسترومر موجودة في القلة والزهد والحيادية، إلى درجة نظن فيها أن قصائده كُتبت وحدها من دون مؤلف تقريباً. الشاعر ذائب في كلماته ومدفون بين استعاراته. إنه مقيمٌ دوماً «على الحد الفاصل بين العالم الداخلي والخارجي»، بحسب تعبيره. ولعل رحيله قبل أيام كان استكمالاً لحضوره الصامت والموارب في الكتابة. الصمت الذي كان قد تعزز بيولوجياً بعد إصابته بشلل نصفي أفقده القدرة على الكلام.
الشاعر الذي وُصِفَ بأنه «أستاذ الصورة الشعرية» كتب شعراً فيه نضارة الجديد ودهشته من دون أن يبدو عليه أنه يجرّب أن يكون جديداً وطازجاً. أهمية ترانسترومر أنه بالكلمات التي كتب بها الجميع وصل إلى قصائد مسجلة باسمه هو. الكلمات التي ظننا أنها باتت قديمة لكثرة ما استهلكها الشعراء استعادت عافيتها وخُضرتها في شعره، والأهم من ذلك أن أشعاره غير مبالية بإعلان جِدّتها أوعافيتها في وجه القارئ الذي يكتشف بسرعة أن ما يقرأه يأتي من مكانٍ مهمل أو من طريق غير معبّدة، وأن الشاعر قد وضع الكلمات والصور في حوزته لكي تحجبه هو أو تُخفي جهده في تأليفها. قصائد ترانسترومر هي بهذه الخفة فعلاً، وتكاد تحظى بانعدام الوزن الذي يتلذذ به رواد الفضاء خارج الجاذبية. إنها كما كتب بنفسه في قصيدة بعنوان «طيور الصباح»: «تكبرُ قصيدتي/ فيما أتقلص أنا/ إنها تكبر وتأخذ مكاني/ تنقلبُ عليّ/ وتطردني خارج العش».
لقد كبرت قصيدته فعلاً، وها هي قادرة أن تحلّ محله في غيابه.