دانيل دافو، الإنكليزي المتعدد المواهب، التاجر والشاعر والجاسوس، والأديب، صاحب رواية «روبنسن كروزو» كتب شعراً عن الشيطان يبرئه من جرائم الأفراد! لكنه كتب أيضاً مؤلفاً شبه عِلماني هو «تاريخ الشيطان».مادة هذا الكتاب قد تبدو غريبة لبعض القراء، لكنها ذات علاقة يومية بحيواتنا وأفعالنا وقناعاتنا، عَلمانية (منسوبة إلى العالم) كانت أو عِلمانية (منسوبة إلى العِلم) أو دينية. الموضوع يمس عمق قناعات البعض، مع أنه يبدو غير ذي معنى لآخرين، أي فكرة لا غير. المؤلف، فيليب ألمُند، برفسور العلوم الدينية في جامعة «كوينزلاند» الاسترالية، وصاحب مؤلفات عديدة في المادة.

المكتبة العالمية تحوي مؤلفات كثيرة عن المادة كتبت من وجهات نظر متعددة، لكن أكثرها ديني المنشأ والجوهر. حسب اطلاعنا، لا تحوي المكتبة العربية مؤلفات ذات صلة ما يمنحه قيمة إضافية، مع أن الكاتب حصر بحثه في الشيطان، فكرةً، في اللاهوت المسيحي، الكاثوليكي والبروتستانتي، منذ البدايات في أسفار العهد القديم إلى القرن الثامن عشر عندما ابتلع الخطاب العِلماني المادة وصار ممكناً كتابة سيرتين للشيطان واحدة لاهوتية وأخرى عِلمانية. لنتذكر عودة ظهور الشيطان في الحياة الغربية في فيلم «طارد الأرواح» (The Exorcist) الذي أثار ضجة حين عرض في مختلف دول العالم، وتأثيره في نفوس كثيرين لا يزال كما في يومه الأول.
كتابة سيرة الشيطان تحتاج إلى نظرة مزدوجة أو ثنائية، إحداها دينية أو لاهوتية، وأخرى عِلمانية تبحث في الفكرة الدينية تاريخياً، منذ البدايات قبل ما يزيد عن ألفي عام. هذه المهمة ليست بالسهلة، والمادة على جانب كبير من التعقيد، آخذين في الاعتبار كثرة المؤلفات الصادرة عنها في العقود الأخيرة. نجح الكاتب إلى حد كبير في مهمة كتابة سيرة عِلمانية للشيطان، تغطي فترة تزيد عن ألفين وخمسمئة عام، وتتناول بالبحث جوانبها اللاهوتية كافة، لكن بلغة مبسطة موجهة للقارئ غير المتخصص، من دون الانتقاص من علميتها الآخذة في الاعتبار اهتمام أهل الاختصاص. وكما قيل في الكتاب: إنه انتصار للتوضيح المبسط لمادة معقدة.
في كتابه الذي يضم تسعة فصول، يوضح المؤلِّف خلق الفكرة تاريخياً ضمن السياق اللاهوتي، ومن ثم بنائها فإعادة بنائها، منذ ولادتها قروناً قبل التأريخ المسيحي مروراً بدخولها تعاليم الخلاص، إلى «موتها» في القرن الثامن عشر. في الوقت نفسه، يؤكد المؤلف أنه عند كتابة بحثه التاريخي، أخذ في الاعتبار ضرورة الالتزام بقواعد العالم لكن مراعياً في الوقت نفسه حساسية المادة للمسيحيين المؤمنين ودورها التاريخي في مسألة الخلاص.

شمل البحث الجوانب اللاهوتية كافة، بلغة موجهة إلى القارئ غير المتخصص


في تناول المؤلِّف لموضوع الشيطان، يبحث في الفصل الأول «ولادة الشيطان» بدء الفكرة في سفر التكوين وفي لفائف البحر الميت. الفصل الثاني «سقطة الشيطان» خصصه للحديث في بنية القصة المسيحية في القرون الخمسة الأولى من التأريخ السائد وجذور الظاهرة المتناقضة. في الفصل الثالث «ملائكة الجحيم»، بحث المؤلف في هيمنة رواية انتصار يسوع المسيح على الشيطان. الفصل الرابع «الشيطان يتجاوز الحدود» يبحث في تفرعات الرواية بدءاً من القرن الحادي عشر، عن الشيطان واتصالها بالسحر الذي تشيطن بسبب ذلك. الفصل الخامس «أجساد شيطانية» يبحث في المادة السابقة من القرن الخامس عشر فصاعداً. الفصل السادس يقارب «الشيطان والساحرة» بحيث أن الشيطنة قادت في القرون الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر إلى اضطهاد الساحرات. وقد تمكن الشيطان في الفترة من عام 1550 إلى 1700 وهو موضع الفصل السادس «الشيطان والنورة». الفصل السابع «شيطان محرِّز للغاية» يعالج مسألة تملُّك الشيطان جسد الفرد واستئثاره به وسكنه، والذي نظر إليه على أنه قريب من هزيمة الشيطان وبالتالي نهاية العالم. الفصل الثامن «هزيمة الشيطان» يبحث في اللاهوت المسيحي المتعلق بنهاية العالم ودور الشيطان في المسيح الدجال. عنوان الفصل التاسع والأخير «موت الشيطان» خصصه المؤلف للحديث في خبوت اهتمام المجتمعات الغربية بالشيطان وتقلب الشروط الفكرية والعقلانية من منتصف القرن السادس عشر إلى منتصف القرن الثامن عشر. فترة قادت بدورها إلى نفي بعض النخب وجود الشيطان، أو حتى لمسائلة أي دور مزعوم له في الطبيعة أو في البشر. بدءاً من هنا، استحال وجود الشيطان روحياً فحسب وربما استعارياً أيضاً.
رحلة مطولة نقضيها مع هذا المؤلف الممتع حقاً، نتعرف فيه إلى مختلف أسماء الشيطان وجذورها وكيفية تأثير ترجمة «الكتاب المقدس» إلى مختلف اللغات في معاني الشيطان واسمه. كما نتجول في مختلف تجلياته من كونه ناراً إلى هواء خفيف، ومن كونه ملاكاً إلى ملاك عاص، وسبب المعصية وهل هي أبدية! كما نعرف رأي التأويل اللاهوتي في حل معضلة قولهم إن الرب لا يخلق إلا ما هو حسن وخلقه الشيطان، وأيضاً كيف تمكن هذا الأخير من معصية خالقه ومن ثم التجول في الكون رغم القول إنه نفي إلى جهنم ودفن تحت سطح الأرض. أسئلة كثيرة أخرى يطرحها المؤلف ويجيب عنها بلغة سلسلة مفهومة. ما يخص القارئ العربي، لعل هذا الكتاب يمارس دور رافعة لأبحاث مماثلة في تراثاتنا.