أيّ الجهات تُشيرُ للبقاء
لن يبقى سوى السقوط، يحرّك الأبدية في أزقّة دمشق
المفردات التي تُوزَّعُ ـ بأسعارٍ رمزيةٍ، على المارّة الذين يتفقّدون الركام
التشوّه الذي يَنفُثُ في الذاكرة، يرفعُ «الأدرينالين» في المكان
كأنّكَ، أبداً، مُسمّرُ عند مواقف الحافلات، ومصابيحها التي تضيء المصير.
جميع عناصر المشهد تأتيكَ بنبال
لا تخبّئ عشبة الخلود في كاحلكَ، فتصرخُ:
إنها زهرة القِنَب الهندي تتدلى من روحي
منفيٌّ ومتأخر في دمشق،
المأهولة بفصول الشتاء
ومَسمّرٌ عند زاوية الانتظار
بكامل برودتك
كعمود إنارةٍ مُطفأ أثناء عبور الموكب.
أنتَ محض مستأجرٍ غريب في جوف شجرة جوز
ترى المسوخ الهاربة
حيث نتلقّى الصدمات الكهربائية على الطريق:
إنّها الليلة الأخيرة فوق جسور دمشق.
المشهدُ محقونٌ بالعزلة والحياد:
مستأجرٌ غريبٌ في جوف شجرة جوز.
تسألُ عامل قطع التذاكر: أيّ الجهات تُشيرُ للبقاء؟
«باب شرقي»



أرتدي جلود أطفال المخيّمات بحثاً عن الدفء

شَبِقاً، أداري الانتصابات التي تُحاول هذه المدينة اغتيالها فينا. وأتسلل بين البنادقِ كالذبابِ نزقاً يرتجلُ ما تبقى من ساعات حياته. أَضرِبُ رَأسي بِالجدار، لعلَّهُ ينشقُّ لينزفَ دماً يكسِر شَوكة أعين الجُند في الصور المنتشرة على حجارة القلعة القديمة. أقفُ عاجزاً أمام الليل لألتحقّ بالحثالة في خمّارة للمخنثين، ممن يلتهمون بعيونهم أسراب السنونو الفارّةَ من أزيز الطائرات.
أنا المُلام دائماً على كل خطايا دمشق. رأس النبي هنا ما زال يتدحرج، يرتّل شعراً وآيات من سورة البقرة، أمّا الماردُ الوردي، فيتأملُ الجسد الجديد للمدينة. تحليةّ اليوم على العشاء. لا وقت للزينة واصطناع العُري، فالموت آتٍ: الأسلحة الجديدة تخترق الجدار الذي أثبت على ظهره حبيبتي، ويدي التي تُمسك الخاصرة تغرز فيها أطفالي المشوهين.
أقفزُ بخفةِ المهرّج بين حُطام دمشق، وألتحف أفخاذ مَن تبقى، ثم أرتدي جلود أطفال المخيّمات بحثاً عن الدفء. دعوا أخوتي هناك لموتهم، دعوا البرد ينخَر أعمدتهم الفقريّة، وحين تقرر الأرض ابتلاعهم، اسقوها أحاديث قدسيّة وشعارات عن القلاع وترساناتها، ثم ربّوها لتثمرَ صوراً زاهيةً تُعلق في الدوائر الحكوميّة. دمشق ضحية الجميع.
هبّوا كثعالب تركض لالتهام أطفالي في جوفي، تعالي أيتها «التراسانت» مزقّي جسد الحلاج على أبواب المدينة السبعة، وليتردد صدى الصوت مستعرّاً كسانل تغاوي المنجل قائلاً «اقتلوني يا ثقاتي...» لا تكتبوا عن هذه المدينة إن لم تشهدوا غواياتها، لا تتعاطوا حبوب النوستالجيا.

انسونا...
نحن نسيناكم...

نحن المهمشون وسفلة هذه المدينة. خصيانٌ أمام الأقنعة الحديدية. أبيعُ كليتي لساعة صمت من دون نواح أو هواجس تخصّب الإسفلت حيثُ أمشي. دمشق الآن عجوز تضرب مؤخرات أطفالها: غادروا المنازل والعبوا خارجاً، لا تخافوا، ففي السيرك الفيل لا يدهس رأس المهرج، وفي دمشق القصيدة تغلف الرصاصة كي تخترقك شِعراً، دماؤك ستنثر ليقتات عليها المارِدُ في جوف الأرض.
الجهادي في دولته الجديدة أكثر سعادة منّي. هو في يقين، أنا في بحر من الشكّ، يد الله فوق يده، أما أخوتي في البحر فلهم رأفة البحّار وحسن تقليم أظافره، واعتدال مزاجه إن شرب قهوته صباحاً وتأمل الشمس تنعكس على خاصرة زوجته. البحّار لا يعرف من أنا، أما الجهادي، فيسنّ سيفه بالهواء لاقتناصي. جسدي المؤقت ينهار أمام آياته، حانات دمشق ستشهد على خسارتي.
رأسي...
يتدحرج...

أمي تشير من بعيد للشمس: أنيري لرأسه طريقاً إلى حضني المتعرِق بالوله. أضرب رأسي بالجدار، الظلام فريضة المنتصر على الصامتين.

أضرب شهوتي في الجدار...
أقذف أطفالي في الجدار...
كيف يفرّغ سكّان الخيام شهواتهم...؟

ألملم بقايا نفسي، أجلس في الظلام، أتأمل الجدران الأربعة فتنهال علي بكاءً. أنينُ أطفالي يعلو وكأني في سيرك. المدينة خارجاً تنعم بحربها، تنعم بما تبقى من وحوشها يلتهمون وحوشاً أخرى.

وحوش بلحى.
وحوش بضفائر.
وحوش يفضلون الكواعب على الممتلئات لحسن اللياقة.

أستكين أمام الكلمات، علها تروض خساراتي. دمشق ستغتالني يوماً ما، بغتةَ، من دون أن يكون لي أي دور في فجورها: أنا حمّال أطفالها المجهضين.
«خالد بن الوليد»




هو الآخر يتغزل بياسمينك أيضاً

تحيط بها «غوطتها» كما يحيط الخاتم بالإصبع. نهرها بردى يتفرع، ليوزع خيره على سبعة أفرع. رائحة الياسمين تضفي على المكان سحراً. دمشقُ عطرُ تغنى به التاريخ، أنت التاريخ. أنتِ إله لا يركع.
ذلك المتسول المثلي الجنس الذي يختبئ تحت جسر الرئيس، يعرض تعبه أمام جميع المارة والأطفال، ويفرغ شحناته في بردى، حيث لا تمل المدينة من الغياب، هو الآخر يتغزل بياسمينك أيضاً.
فتاةٌ في التاسعة من عمرها تلتوي لتلتقط لعبتها. جسدها متحفٌ وطني، لا تمل أعيننا من تلك الحضارة. قطةٌ بلا ذنب، وأذنابٌ في كل مكان. على باب المحكمة شريط تسجيل يعلو ضجيجنا الحي، ليهنئنا باهتدائنا إلى مكانٍ آخر في هذا العالم، حيث «الفرجة ببرجة وحيلا غرض بمئة ليرة». وثمة شريط تسجيل آخر يجتر كلام الله. هل سيصمت التسجيل عندما يُنفخ المزمار الأخير؟
امرأة عجوز تزور قبراً وضع سلفاً إلى جانب قبرها. الموت حاضر والله غائب. صليبٌ وهلال، ومصورٌ غبي يظن أنه قادرٌ على اختزال المدينة من دون أن يعرف كل ما يشغل شوارعها. عندما تموت ستصبح جذراً يربط معارفك بهذه الأرض الفارغة. تحيط بها القبور كما يحيط الخاتم بالإصبع، وجذورنا في المدينة تقبع. رائحة الياسمين عصيّة أحياناً لكن الشجر مجاني في دمشق.
سيذهب المتسول إلى منزله، ليعطي ابنته مصروفها ويمنعها من الذهاب إلى الأماكن العامة وحدها. ستخلع الطفلة ثياب اللعبة وتتعلم من الكبار «حب الوطن». وعندما ينفخ المزمار آخر مرة، سأنهض وأحطم أشرطة التسجيل وأحرق كل الصور.
«أوغاريت»







... وأنا في «جحري» منذ ثلاثة أيام

«تفتقد دمشق اليوم للمهرجانات الثقافية»...

قد لا تعدو الجملة أعلاه، كونها مجرد خبر. خبر لن يفاجئ المتلقي أينما وجد. فسوريا اليوم في ثورة. أزمة. أحداث. لا يهم. هي في حرب. وطالما هي على حالها، لن تتغير حال حركتها الثقافية اليومية. مَن داخل البلد هم المتاح أمامهم العمل. المتاح، وليس كل متاح مسموحاً ومباركاً من قبل الحاكم. ذلك، يعني غياب المهرجانات والتظاهرات عن أي فعالية ثقافية. مَن هنا هنا، ومَن هناك هناك، أيّاً كانت جنسيته، معارضاً أو مؤيّداً لم يلق فنّه على قارعة الطريق، ليرميه في الجحيم... هنا.
يعيش الشاب السوري حالة خواء ثقافي. لم يتجاوز عدد المسرحيات التي قدّمت العام الماضي العشرين مسرحية. كذلك الحال بالنسبة للسينما. لا مهرجانات. لا عروضاً. لا تظاهرات. لا شيء البتّة. هل المشكلة في الخواء الثقافي الذي نحيا في فضائه وحسب؟ طبعاً لا. المشكلة بالعقم الذي ينتجه يومياً هذا الخواء. ماذا يعني أن يطاول العقم الإبداع في بلد ما؟ بعبارة أخرى، هل نحن عقيمون؟ ألا يمكننا إنتاج إبداع جديد؟ ما هو الشكل الذي سنجترحه في حضرة الفوضى والموت؟ هل فشل الحمل الذي دفعنا به لأننا عقيمون مثلاً؟ ممّا لا شكّ فيه أن المدينة هي السبب، بهدوئها وخلوّها. بما يحيطها من موت يومي لا ينتهي. بتلك الخطوط التي تفصلها عن ريفها المشتعل. دمشق لا تخشى شيئاً.
أنت هنا. تخرج العبارة من سياقها المروري لتواجهك بتكوين هوية ضعيفة وهشّة أو مشوّهة ربما. أنت بالفعل هنا. تفكّر وتبدع وتثور ولا تفعل شيئاً. أنت هنا الآن. هذه الـ»هنا» لا تجمعها وحدة تزيد عن بضعة كيلو مترات وتصبح هناك. هناك، خلف تلك الخطوط التي تجعل من شيئين ـ هنا وهناك ـ يختلفان بتكوينهما اختلاف الحرب عن السلم. أو بشكل أدق، الحرب ومحاولات السلم.
مثلاً، هناك، لا يلتفتون إلى الخواء السالف الذكر. ماذا يعني لشاب أخسره حصار «مخيم اليرموك» تلك الآمال التي رسمها ذات يوم؟ هذا الخواء الثقافي هراء لديه. خواء! سيقولها بتعجّب ويضحك مضيفاً «للخواء أبعاد أكبر: الجوع والعطش والحياة».
هناك، على بعد أمتار معدودة من مكان صاحب الكلمات، ليست ستالين غراد أو بيروت 82 أو طراودة، بل قطعة خذلتها أقدم عواصم العالم. يستأنف ابن الهناك كلامه «الخواء هو أن تنظر إلى الغد فتراه فارغاً. فارغ حتى منك». أخفي وجهي وأتمتم «ما الغد لدينا يا صديقي إلا حصار ميت لميت؟». خارج المكان، يغدو الخواء أكثر حدّة حتى تكاد تشعر أنك لا تَشغل حيزاً من الفراغ. المدينة العقيمة تجثو على صدور سكّانها. تقطع بالسكين الهنا والهناك. تحكم على أولئك بالموت وتقضي لغيرهم بالفشل. العقم يطاول الجميع، الآن وغداً. هذه ليست محاولات بائسة للكتابة أو حنين لمدينة خذلت سكانها للمرة الألف. دمشق لم تكن سابقاً أفضل من الآن بكثير، بل كانت أشد حلكة. إنما، هذا هذيان محروم في مدينة يهذي شبابها، هنا وهناك، قائلاً: «حرقنا هالمدينة وما تعمّر معنا وحدة أشرف».
حاشية أولى: أكتب هذه السطور، وأنا في «جحري» منذ ثلاثة أيام. العاصفة أفقدت المدينة الحياة. المفارقة، أنها أفقدتها الموت أيضاً. لم يمت سوريّ اليوم. لم تزهق روح اليوم. يبدو أن غيوم العاصفة منعت الأرواح من الصعود.
حاشية ثانية: العقم يمنع الحمل، لكن لا يمنع صاحبه من ممارسة الجنس/ الكتابة.
«مهيار الدمشقي»







أين ضجيج الله بيننا؟

تصطك المفاصل الصدئة في المدينة. أصحو على عزفها. أقف. أحرق السرير. أضع الشكيمة في فمي من دون دهنها بالعسل، ثم أربط نفسي باللجام وأدور حول النار في متواليات منتظمة. خاضعاً، ساكناً، نبيلاً في عبوديتي... وأخرج بعدها من مخبأي.

«العطش».

الجداول بالقرب مني، لكنّي لا أعُبُ منها كي لا أوقف الجريان علّها تصبح نهراً يعبر بنا إلى مدافن موقعة «بواتييه». هناك، ننشد لأحفاد شارل مآثر خيولنا ونستسلم للحنين: محاولة الرمال غزو البحار.

«العطش».

أضرب بأقدامي الأرض علّ الماء ينضح. أدغدغ لساني بالتراب. قطرات وحلٍ تكفي لسدّ الظمأ. أسير مستغرقاً بالعيون. الكل ينتظر الصهيل أو ربما تهجئة خاطئة لبعض الكلمات الوظيفية. أستمر في السير، محاولاً تلمّس الظلال المشوّهة لهذا العمران ومتجاهلاً كل الطلاسم اللغوية والبقع السرطانية على الجدران. ليست للمآذن ظلالٌ في هذه المدينة، إذ أنها ترتخي عرجاء في لهاث المارة الساخن، وأنا بدوري أتحاشى العبور تحت القباب بالقرب من ساحات المعارك الخاسرة، لعلّه حقاً اندحر الجميع إلى المقصلة. أحاول معرفة شبق الأصوات الرتيبة واللكنات النبيلة المقبلة من خلف الشمس. أما عنقي، فلم يمسه شيء، ومن ثم كان تهكّمي وتبوّلي الدافئ بالقرب من منادي الأنباء، صفعة واحدة. واحدة فقط تكفي للمأساة واحتقان كليتي.
هل تكفي الصور التذكارية لسرد التاريخ؟ أين الألوان وأين الغناء؟ وأين ضجيج الله بيننا؟ هل بالفعل كانت مذبحة؟
في الحقيقة، لم يتغير موقف أحد من الموت في هذه المدينة. كل ما فعلوه الاصطفاف على طول الشاطئ وانتظار القوارب التي ليس لها أشرعة. أيها القردة، قمصانكم لن توجّه الريح، كذلك لن تتمكنوا من التضرع لـ»بوسايدن»، إله البحار، لجهلكم باللغة اليونانية، وإن وصلتم، فإن أجسادكم هشّة أكثر مما ينبغي لبناء حصان طروادة والعبور إلى بلاد الذهب المقدّس، حيث الشمس الناعمة المتدفّقة على الأجساد البشرية البيضاء. عطشكم للحم الأبيض سيخذلكم. الشاشات المسطّحة ليست نافذة سحرية للحم الأبيض. لن يتحقق انتصابكم إلا على البيانات الرقمية. ذات البيانات التي تحقق موتكم فيها. أما بعد، فلتحيوا رحلة عبوديتكم القديمة، إذ أن أربعمئة عام أناضولية لم تكف لفض مازوشيتنا جميعاً، وفي أسوأ الأحوال ابحثوا عن النفط وأنتم تصطادون السمك بأيديكم، بينما تأتي المراكب.
أصحاب الأثواب القصيرة والشعور الكثيفة يصرحون بأنهم سيقطعون رؤوسنا جميعاً. نسوا احتفالاتنا بالموت قرب المقصلة. آنذاك، كان المهرّجون يخلعون عن القردة سراويلها ويضحكون. القردة التي لا تتألّم من الضحك، فقط ترقص بانتظام في أرتال طويلة، بينما المسوخ تختبئ في انتظار الليل، حينها تتبهرج بالألوان وتهرول إلى الحانات بحثاً عمّن يختزل المعنى. أما أنا السافل، فآتي لألقي خطابي عن شعرية الجنون والثرثرة، ممسكاً بعصا أضرب بها كل قردٍ شذّ عن الرتل تحت تأثير الكحول، ثم أصطاد. هناك أبذر كل قهري في جوف المدينة المشوه، لتنبت طفلاً أقص أنفه، علّي بفعلي هذا أهجّن فصيلاً جديداً قادراً على العيش في المستنقعات. إلا أن الشرف الرفيع الأصيل يأبى العيش بدون العنبر والعود، لذا أدفع يدي في الجوف وأسحب الجنين، وأرميه في المرحاض. ثم أسكب الماء لينحدر في مجاري المدينة الهادئة.
فلينقطع النور، وليجتاحنا الطاعون، وليجرفنا البرد، نحن المتأقلمون، نحن المتكيفون مع الموت، نحن طفرات جينية لا تؤمن بالتطوّر.
«ميسلون»




دمشق القول الباطل

الحق أن لدمشق تجليات وحدود وآفاق وأقنعة لا تنتهي. والحق أن لنا تأويلاتنا عنها ولنا وحدنا «الزوال» ولها ــ من بعدنا ــ «طول البقاء».
لها فينا ساعة الخمر والنجوى والانعتاق. لها فينا طرب الندم لأصوات الذاكرة المتعبة؟ لها فينا ساعة العقل مجرداً من الشعور. وليس لنا فيها إلا غياب القول.
كل قول فيها باطل، كل باطل له قول فيها... ولكن، ألا يطيب لها بوصفها أقدم الإناث وأكثرهن فتنةً أن نقول فيها المدائح والمراثي؟ ارقصي يا دمشق. تعري، ارتجفي، خذي نفساً عميقاً وأقرأي «هكذا تكلم زارادشت». ولأقل أيضاً: ابتعدي، تناثري، تحجري، اختنقي بأسباب فتنتك لوحدك، واحتفظي بزفيرك الخانق الممسوس لنفسك فقط.
أنصتي: عندما كنت طفلاً، كنت أبول على نفسي وأنا نائم، هل تذكرين ما الذي كان يخيفني بالضبط؟
أنصتي: ثمة أصوات تأتي من الهامش... هل تثير فيك شيئاً؟ هل تدلل الهامش على سر من أسرارك؟
عندما كنت وحلاً، كنت أتوالد آلاف المرات في الهنيهة الواحدة، كنت صيرورة من الخلق... هل تعلمين لماذا أنا الآن على هذه الهيئة؟ هل لديك أدنى تصور عن ذلك؟
أنصتي: الأصوات تقترب أكثر، علينا الاحتماء بظلٍ ما. ألم يخبرك كافكا عن المحاكمة المعقودة منذ الأزل؟ ألم يخبرك شيئاً عن العزلة؟ ألم يلوّح لك باستحالة الكتابة في يوم من الأيام؟
هنا لون السماء يبهت. ها هي الشمس تغترب عنك للمرة الأخيرة، ها هو نهر بردى ببلادته المثيرة للاشمئزاز ينأى بنفسه، ها هي الأصوات نفسها (الآتية من القاع) تعاود الظهور وهي بأبهى حلل المقاتل. ألا تثير هذه العلائم شيئاً ما فيك؟ ألا تدلل على سر من أسرارك؟
أسوارك الهشة/ قلعتك المرممة على عجل/ أسواقك المليئة بالمتسولين/ أبوابك الموصدة/ جدرانك المتشققة/ جسدك المترهل/ فضائلك الذكورية وفضائلك الأنثوية/ نساؤك اللواتي لم تحتف يوماً، لم تمجّد يوماً ما قدرتها على الحياة. كل شيء فيكِ يا دمشق: جميع مظاهر الحياة.
الحق أن لعالمنا الداخلي تجليات وحدود وآفاق وأقنعة لا تنتهي. والحق أن لدمشق وتأويلاتها عنا «الزوال»، ولنا ــ من بعدها ــ طول «البقاء».
«صلاح الدين»






الثلج الأسود

جميعنا يعرف بأن كل الثلج أبيض وبأنها قضية صادقة، لا تحتاج إلى برهان. ولا يفيد التأكد من لون الثلج عند هطوله. وهذا الحكم يحتم نفي أي لون آخر للثلج، أي أننا لو قلنا: «الثلج أسود»، فهذا كاذب بالضرورة. الأبيض والأسود ضدّان. عندما يهطل الثلج يرافقه «هيجان» المشاعر الدافئة والاستماع إلى الأغاني المعبرة «تلج تلج عم تشتي الدنيا تلج... ألفة بكل بيت»، وذلك لما يحركه من حميمية رغم برودته سبحان الرب. وكم جليلة دمشق وهي مكتسية بالبياض... دليل النقاوة والصفاء والرعونة. جبالها بيضاء، مروجها بيضاء، جوامعها وكنائسها بيضاء، عمرانها أبيض وأزقتها كذلك.
في دمشق، لست بحاجة إلى تناول المواد المخدرة أوالحبوب المهلوسة، أو حتى أن تكون مضطرباً عقلياً لكي تثبت كذب وقباحة ما تقدمت به. هنا، أي في دمشق، ليس كل الثلج أبيض. فلا حميمية موجودة ليحرّكها، ولا أغاني يمكن أن تعبر عن قبح المنظر، ولم يبق مشاعر دافئة من شدة البرد حتى تهتاج. وليس هناك معلم من معالم الجلال تقشعر له الأبدان. كل ما هنالك هو برد شديد. أزيزه يحاصر مسامعك، صقيعه يسكنك. دمشق مدينتا تفقد رداءها الأبيض.
ألم يكن هذا الثلج على دراية قبل سقوطه بأن دمشق مزدحمة بآلاف الأجساد العارية؟ وبأن دمشق مظلمة والعتمة أفقدتها بصرها ولن ترى بياضه. بياض لم يعد يناسبها ولن يجملها. ألم يخبره أحد بأن دمشق رفعت سترها وفقدت مناعتها وأصبحت عرضة لما هب ودب من الآفات والترهات؟ على الأقل، كان على هذا الثلج أن يعلم حقيقة واحدة قبل مجيئه، وهي أن الإنسان في بعض أنحاء دمشق تعبُ الحواس. أصاب الدمشقي تعب لندرة الموارد الحياة الأساسية من دفء وكهرباء وغذاء. الدمشقي يبحث عن العالم الخارجي أحياناً، رغم تعلّقه بمدينته.
أليس هناك من أحد يردد على مسامع الآلهة بأن هذا الثلج نقمة؟ أليس هناك من أحد يقول لهذه الآلهة بأننا ورثنا الأقوام الكنعانيّة وتجاوزناها في الحضارة؟ المشهد واضح. لا يحتاج إلى نبي أو رؤية صادقة أو «كرامة» أحدهم، حتى يفسره، ببساطة نحن بشرُ نتعرض للإهانة والموت من قبل عامل جوي أعمى. بشرُ تمارس علينا الآلهة قيمة المذبح الفائضة. هنا سوف يجتمع الضدّان، هذه المرة، ويصدقان معاً، ثلج ظاهره أبيض ولكنه معبأ بالسواد. لا فرق، حتى إن لم يبد هذا السواد ظاهرياً للعيان. وبناء على ما تقدّم: كم قبيحة دمشق وهي مكتسية بالبياض الزائف، دمشق تشتاق إلى البياض الأم.
«يوحنا الدمشقي»