أحياناً تبدأ القصة بإضافة على «فايسبوك» أو متابعة على «تويتر»، أو باتصال هاتفي على «نمرة غلط»، لم لا؟ نحن في عصر السرعة. نكاد نعترف بأن عملية «التعارف» والزواج قد تغيرت مع الأيام وباتت خاضعة لتطورات العصر، وأن أيام الزواج المدبّر والوسيطين والخَطّابات أصبحت جزءاً من الماضي ومصدراً للتندر والتسلية.
وهذا الأمر صحيح لكن، في المقابل، ما زال التعارف التقليدي و«التدبير» قائمين، بل أصبح هو أيضاً مواكباً للعصر بعد أن خضع لضرورات «السوشال ميديا». «العريس» المغترب، «اللقطة»، مثلاً، فكرة حديثة نسبياً، طرأت مع حركة الهجرة الواسعة لدى الشباب اللبناني. نسمع كثيراً عبارة «جايي يتجوز». هكذا، يضع الشاب والدته ــ والوالدة صاحبة دور مركزي في مجتمع «شرقي» ــ في «الأجواء». أسباب الزيارة إلى لبنان هي الزواج «عالطاير». وهكذا، تفتح الأم بدورها سيرة «العروس» والمواصفات «المطلوبة» أمام الخالات والعمات، لتستقبله كل واحدة منهن باقتراحها اسم «بنت الحلال»، «ست البيت»، أو «بنت فلان». هذا ما زال شائعاً. أما أن تنقلب الآية وتعود الصبية إلى لبنان بهدف الزواج، فهنا مكمن الذكوريّة التي يأخذها اللبنانيّون معهم إلى الخارج. «كنت بعمر السابعة عشرة حين أرسلني أهلي من أميركا» (تقصد أميركا الجنوبية). هكذا تروي زهراء كيف عاشت مع جدتها لأبيها لعامٍ تقريباً قبل أن يأتي الشاب «المناسب» (اللقطة) الذي يحدده الوالد بعد أن يستفسر عبر الهاتف عن نسبه وأهله والأهم من هذا كله: «صيته في الضيعة». وبالطبع، عن «مادياته». تزوجت زهراء إذاً بعمر الثامنة عشرة. حضر أهلها الخطبة والعرس وعادوا من حيث أتوا. «أراهم كل صيف تقريباً، لكني أكلم أمي يومياً عبر الهاتف لأطمئن عن الجميع وأطلب منها النصح في بعض أمور البيت وتربية الأولاد». وعما إذا كانت تزور أهلها في أميركا الجنوبية، تجيب بضحكة وبصوت خفيض: «زوجي ما بيقبل». وفي حالات أخرى كثيرة، تصطحب الفتاة عريسها معها إلى بلاد الاغتراب. وهنا «لعبة» أخرى. هديل ومحمد مثلاً تعارفا في لبنان حين كانت عائلة هديل تمضي الصيف في قريتها الجنوبية. تضحك هديل حين تتذكر كيف رفض والدها الأمر في البداية، حيث قرر ألا يثق بالمهندس الشاب الذي، بظنه، يبحث عن «فيزا». لا وظائف في لبنان. «كان الكثير من أبناء أصدقاء أبي يكلمونني عبر فايسبوك ويحاولون التقرب مني. أخبر أبي أني... لا أريد أياً منهم فيغضب ويؤكد أنهم محل ثقة. أخبرتُ أحدهم يوماً أني أفضل أن أتزوج من لبناني لأني أكره الحياة في أستراليا وأريد أن أعيش معه في لبنان. في اليوم التالي بدأ يتهرب وانقطعت أخباره بعد أسبوع».
تنفجر ضاحكةً وتردف: «من يومها عرفتُ كيف طفشهم». تؤكد هديل أن معظم اللبنانيات اللواتي تعرفهن في أستراليا يواجهن المشكلة نفسها، وأنهن يكرهن زيارة لبنان لأن الجميع يرى فيهن «جنسية أسترالية جاهزة لمن يطلب»، بمن فيهم... «الخطّابة». والخطابة لم تعد كما في السابق مقصداً للشاب الذي يبحث عن عروس فحسب، بل إن الصبايا أيضاً أصبحن من ضمن «الزبائن المفترضين». «أم علي» خطابة «مودرن». للشباب وللصبايا. تتحدث بلا حرج (مع ابتسامة ساخرة وغمزة تفصل الجملة عن سابقتها) كيف أن بعض الأمهات يلمّحن لها بكلام مبطن عن بناتهن اللواتي لم يتزوجن بعد: «بتقلي إجاها دكتور وما قبلت، قال قرفانة من هالبلد». تلتقطها أم علي «عالطاير». إذن، الشاب المغترب التالي الذي سيزورها، بعدما يأس من تكوين علاقة طبيعيّة في «الغرب»، سيكون من «نصيب» هذه الصبية، التي رفضت «الدكتور»، على أن يتوافر بين الطرفين تناسُب في بعض المواصفات البديهية، كالعمر والالتزام الديني والأوضاع المادية والمستوى التعليمي في العائلتين. عرض وطلب، وعلى هذا النحو، «الله يتمم ع خير»! تستعين أم علي أحياناً بالتكنولوجيا: على هاتفها الذكي صور لعرائس محتملات، جمعت بعناية عبر «واتساب» أو «فايسبوك»، فتعرضها على العريس، وذلك لإقناعه بالبضاعة (أليس هذا ذكورياً إلى درجة غير مسبوقة؟). تأخذ رشفة من فنجان القهوة ثم تتذكر حادثةً طريفة. أحبّت الحديث واعتبرته طبيعياً، كما لو أننا خارج العالم: «مرة بقيت ساعات أقنع شاب بصبية واقتنع، جبت صورتها عن الفايسبوك لفرجيه إنها حلوة قام قللي: حلوة بس بتحط صورها عالفايسبوك، ما بدي اياها». (هذا ذكوري أكثر من «وظيفة» أم علي نفسها). تضحك أم علي حتى يهتز جسمها المكتنز وتختم: «يللا، صار في تلفونات وانترنت، لشو بعد بتلزم الخطّابة!».