«يتسلق» محمد حاوية النفايات. يجلس فوق أكوام القمامة ويبدأ جولة «النبش» اليومية. لا يأبه لا لبرد قارس ينخر جسده الصغير، الذي بالكاد تستره تلك «القماشة» الرقيقة، ولا لمياه الأمطار الباردة التي تغرق «شحاطته» الزهرية. الهم هنا أنه «بدنا نعيش»، يقول ابن السنوات العشر.
قبل ثلاث سنوات، فرّ الطفل مع عائلته من الموت في سوريا ولجأ إلى إحدى قرى البقاع. بقي هناك، حتى شعر بعجز والده عن إعالة العائلة، فـ»تهجّر» إلى بيروت، للتخفيف عن العائلة، وسكن مع ابن عمه فواز، الذي يعمل في تجميع البلاستيك. لم يمهل نفسه فرصة التعرف إلى العاصمة، فهو أتى للعمل «ومش للكزدرة». اليوم، مرّت أكثر من ثلاثة أشهر على وصوله ومباشرة العمل، اكتسب خلالها الصغير خبرة في جمع البلاستيك. صار قادراً على فرز قطع البلاستيك ما بين «عادية» و»ثمينة».
يجمع محمد وفواز أكثر من عشر أكياس يومياً. يحملانها إلى «البورة»، سيراً على الأقدام، دفعة تلو الأخرى. قد يحوي الكيس الواحد منها كيلو من البلاستيك وربما أقل. وحده الحظ يلعب دوره في هذه المهنة، فكلما «وزنت» الأكياس، كلما كانت «الغلّة» أكبر. فثمن كيلو البلاستيك 200 ليرة لبنانية. و»200 على 200 بتعمل»، يقول محمد. وفي معظم الأحيان «لا نجمع بأكثر من 20 ألف ليرة لبنانية، بالكاد تكفي لطعامنا واحتياجاتنا الضرورية».
ليس محمد وحده من يمتهن «النبش» في أكوام النفايات، فقد صارت مهنة لفقراء كثيرين لم يجدوا لقمة عيشهم في أماكن أخرى. هكذا، صارت الحاويات والمكبات مورد رزق كثيرين، بدوام عمل طويل يبدأ في الصباح الباكر وينتهي مساء، عندما لا يعود العامل قادراً على تمييز البلاستيك من غيره. أما فترة الاستراحة فتأتي مع عربات «سوكلين» التي تحضر لتنظيف الحاويات. أن ترى طفلاً كمحمد باحثاً عن لقمة عيشه في حاوية النفايات أو عجوزاً يقاوم اهتزاز يديه لحمل قنينة بلاستيك فارغة، فهذا ليس مشهداً طارئاً. هو مشهد «عادي» بتنا نراه يومياً.
مشهد يمرّ الناس بجواره، من دون الالتفات اليه. وإن التفتوا، فقد يشعرون بشيء واحد: النفور. لا يشغلون بالهم الضيق بأن هؤلاء باحثون مثلهم عن لقمة عيشهم. مع ذلك، نسي أصحاب تلك المهنة نظرة الاشمئزاز والتفتوا لرزقهم فقط، «فالخجل هنا ممنوع»، يقول أحدهم. فإن خجلت ستموت جوعاً. لذلك، إن أردت العيش «فلا تخجل واغطس في القمامة. لا تلتفت ولملم السلع الثمينة التي تدر عليك بالرزق»، يتابع. أما عبد، الأربعيني الهارب هو الآخر من جحيم الحرب الدائرة في سوريا، فقد جاء إلى لبنان مخلّفاً وراءه سبعة أطفال، للعمل في «أي شيء». بحث كثيراً، فلم يجد أمامه سوى مكبات النفايات، التي يبحث فيها عن النحاس والفضيات ويبيعها. وفي هذه المهنة، قد يجني ما يسدّ الرمق وقد لا يجني شيئاً. «إنت وحظك»، يقول. ويتابع «حسب شو بتلاقي، ولكن في أحسن الأحوال أجني 30 ألف ليرة لبنانية». مع ذلك، لا يستطيع هذا الرجل إرسال ما يجنيه إلى أطفاله المحاصرين. يبكي ويبكون، فهو لا يستطيع العودة إليهم خالي الوفاض وهم يبكون «لأني أعمل في النفايات، صدّقيني لقد أصبحت شحاذاً دون أن أدري. ولا شيء يريحني سوى الموت». يتحدّث عبد عن انكسار لم يعهده إلا في أيامه هذه، وتعب نفسي وجسدي وإذلال يتعرّض له من العابرين. يقول: «يرمونني بأبشع الألفاظ، وأنا لا يمكنني فعل شيء حيال ذلك سوى أن أجعل من نفسي أصم وأبكم»... وهو ما يستنجد به نوح جعفر، ابن السابعة عشر ربيعاً أيضاً. وهو الذي يعمل مع والده في البحث عن الكرتون. يقاوم نوح صعوبة نطقه، ولكنه لا يفلح، فتخرج الأحرف من بين شفتيه ناقصة وغير مفهومة. ولا تسعفه يداه وأصابعه الملتوية التي يلوّح بهما لمساعدته على التعبير أكثر. مع ذلك، يشرد في سرد أحلامه. فيقول بصعوبة بالغة بأنه يحلم بالعودة إلى الدراسة ليصبح محاسباً. وهو الذي كان تلميذاً «في الصف السابع في مدرسة الهادي للإعاقة السمعية والبصرية»، ولكنه اضطر إلى ترك مقاعد الدراسة ومساعدة أبيه. يتلقى نوح أجراً في الاسبوع يقدّر بـ50 ألف ليرة، يحاول أن يدّخر جزءاً منها ليعود إلى مدرسته العام المقبل.

تقسيم العمل اليومي

بعد الانتهاء من تجميع المواد، ينقلها العاملون إلى «البورة» لبيعها. والبورة في العامية تعني أرضاً يتم فيها شراء مخلّفات القمامة من حديد ونحاس وبلاستيك وكرتون لبيعها وإعادة فرزها. وفي هذا الإطار، يشير صاحب إحدى «البور» أحمد عساف إلى أنه «يأتي الي يومياً ثلاثون عاملاً يجمعون الحديد والنحاس والتنك وغيره». صار يعرفهم جميعاً ويتفق معهم شفوياً على الكميات المطلوبة. يقول عساف إنه «أحياناً يمكن أن تصل يومية العامل منهم إلى ثلاثين ألفاً، بحسب ما يجمعون».
أما طريقة عمل هؤلاء الأشخاص، فمحصورة بمكان وجود هؤلاء في المناطق. ويشير عساف إلى أنه يتّفق أصحاب «البور» فيما بينهم حول آلية العمل تفادياً للمشاكل «فنعمل على تقسيم ساعات العمل اليومية وتقسيم العاملين على الحاويات». فعلى سبيل المثال، في «محيط» عساف، يوجد ثلاثة «بُوَر» أخرى يتفق مع مالكيها على منح العمال التابعين لهذه البورة أو تلك 5 ساعات لـ»البرمة» على المكبات والحاويات والعمل فيها. ثم يأتي دور آخرين متعاقدين مع تاجر آخر للبحث بين القمامة لمدة خمس ساعات أخرى. وهكذا دواليك.