تحت مبدأ «إن جنحوا للسلم فاجنح لها» دخل الجيش السوري بلدة حلفايا، في ريف حماة الغربي، بعد هروب عناصر «جبهة النصرة» باتجاه ريف إدلب الجنوبي، وهروب المسلّح غير الشهير «أبو مشحم» معهم. معارك عنيفة دارت لأيّام طويلة تخلّلها الكثير من المواقف الحرجة، والمُضحكة أحياناً، جرّاء قرب المسافة بين المتحاربين.
«أبو مشحم» الذي لم يتجاوز 18 عاماً من العمر كان موجوداً خلف ساتر مواجه لمقاتلي الجيش السوري، مستعدّاً لتنفيذ مهمّته التي يقول إنّها «تنغيص حياتهم». لكن الأيّام كانت طويلة، وكان لا بدّ، كما هي العادة بين المتاريس المتقابلة، من أن ينشأ شيء من التواصل بين جنود الجيش وأبو مشحم. يروي أحد الجنود حكايته مع أبو مشحم، فيقول: «كان يعمل، أحياناً، بعدما يفرغ من تبادل الشتائم مع الجنود، على تبديل ترددات اللاسلكي والتشويش عليها لتعطيل الاتصالات».
من خلف المتاريس
كان أحمد يحاول
إقناع مروان بأنّ
الأجانب هم الأعداء
ويتابع الجندي: «صرنا في نهاية المطاف نتحاشى الخلاف معه، فهو يعطينا إشارات من خلف المتراس. وتطوّر الأمر في ما بيننا حتى بتنا نناديه أحياناً ساخرين (أبو مشحم فقدنا الاتصال مع العمليات دخلك خبرهن يتصلوا فينا. أبو مشحم خبّر حسن يحكي مع العمليات) وكان أبو مشحم يستجيب لنا، في محاولة سخرية مضادة، ويتصل بحسن ويخبره عن ضرورة الاتصال بالعمليات». أخيراً هرب أبو مشحم، الآتي من حلب، مع من هربوا إلى خان شيخون، في ريف إدلب، فافتقده جيرانه المقاتلون.
بحسب ما يرويه الجنود عن تلك الأيام، فإنّ الأحاديث بينهم وبين المقاتلين في المقلب الآخر كانت تبدأ بالاتهامات الطائفية، تليها الشتائم، قبل أن يتبع ذلك محاولة كلّ طرف إقتاع الآخر بصوابيّة موقفه.
علي، الجندي الذي قاتل في ريف حماة الشمالي، يروي كيف حاور مسلحين سوريين، على «المحرس» الخاص بقطاعه، ويشرح أنّ «من الممكن إيجاد أمور للكلام عنها مع السوريين، حتى لو كانوا مسلحين. لكن المسلحين الأجانب كانوا عرضة لسخريتنا وشتائمنا ورصاصنا طوال الوقت». ويؤكّد أنّ الأمور تبدأ بالشتائم دائماً كون كلّ طرف منهما يرى في الآخر عدوّاً، ولكن الوصول إلى نقاط مشتركة هو أمر متوقع في كلّ مرة، ويذكر علي أنّ عبارة «نحنا ولاد بلد واحد. أنت شايف حالك صح، وأنا شايف حالي صح. خلي كلامنا حضاري» هي من العبارات التي لطالما استخدمت في مورك. وفي بعض الأحيان «كان المتقاتلون يتبادلون طلقاً نارياً في الهواء، كنوع من التعبير عن الغبطة وإشارة ودٍّ للآخر».
حكاية أخرى يرويها مروان، جندي من مدينة دير الزور، فرّ من الجيش السوري خلال معارك الزارة في ريف حمص الغربي، تاركاً خلفه صديق عمره أحمد، الذي رفض الانشقاق وأصبح هاجسه التواصل مع رفيقه لإقناعه بالعودة. من خلف المتاريس كان أحمد يحاول إقناع مروان بأنّ الأجانب الذين يقاتلون إلى جانبه هم الأعداء لا الجيش السوري. لكن المعارك تواصلت، وانتهى الأمر بعدها إلى تسوية وضع مروان الذي عاد مواطناً في بلده بعدما استشهد صديقه أحمد في إحدى المعارك، ما سبّب وجعاً لمروان الذي اعترف قائلاً: «كان محقاً. إن زملائي الأجانب يقتلوننا. وقد قتلوه». عملية «عين الصقر» التي تمّ تنفيذها في جورة الشياح، في حمص، منذ شهور طويلة، توضح إمكانية الوصول إلى نتائج عسكرية لافتة من خلال الحوار القائم عبر المتاريس؛ فالمسلحون المحاصرون كانوا على استعداد لدفع أي مبلغ مقابل الدخان والطعام. أمرٌ استغلّه الضباط السوريون أثناء الحوار مع المسلحين الجائعين، والمفاوضين على سلة تحتوي معلبات وعلب سجائر مقابل بدل مادي كبير. وعملاً بالقول «الحرب خدعة»، تمّ تفخيخ السلة، وإرسالها إلى المبنى المقابل، عبر ضابط سوري، فصلته 4 أمتار فقط عن المسلح المُفاوض، والذي بنى جسور الثقة المطلوبة للعملية. وبعد لحظات من عودة الضابط إلى مقرّ القيادة، تمّ تفجير السلة، ما أدى إلى مقتل 3 مسلحين.
ويذكر أنّ الحوارات بين المتحاربين لم تتوقف عند حدود الكلام، بل تجاوزتها في مواضع عدّة إلى صفقات تهريب للدخان والطعام والذخائر. كذلك فإنّ هذه الحوارات كانت، لدى البعض بمثابة نافذة لمعرفة أخبار البلاد، وتطورات الأوضاع السياسية عن طريق الطرف الآخر. ويشير كثيرون إلى أنّ الحوارات بين الجنود والمسلحين غالباً ما كان يرافقها تشويش من قبل المسلحين الأجانب. فالمتاريس، حيث لا يفصل الجندي عن المسلح غير جدار متهالك وطاقة قنّاص، غدت بوابة لتمرير الرسائل بين منطقة وأخرى.