بدايتي كانت بدايات. اكتشف أحد المعلمين في مدرستي الابتدائية امتلاكي صوتاً جميلاً، وهكذا صرت مغني المدرسة. وجد أبي ذلك مفرحاً، فقد تعلمت منه. كان يغني في البيت، وحده في غرفة الضيوف، هو المتصوف، ويقرأ في الجامع ويحتفى به في بيوت الأصدقاء ومناسباتهم . ذهب أحد المعلمين اليه ورجاه أن يوافق على دخولي «معهد الفنون الجميلة» قسم الغناء والموسيقى، لكن أبي رفض ذلك إذ كيف أواجه الناس – حسب تعبيره – وقد تحول ابني إلى «طمبورجي»؟ ثم أخبرني بأنه لن يساعدني مالياً إذا وافق المعهد على قبولي في المستقبل. وهكذا قضى أبي على حلمي الأول وموهبتي التي كنت أزهو بها. عند انتقالي الى الدراسة المتوسطة، صرت أميل الى الرسم. أنجزت أعمالاً مائية، تخطيطات، وحتى لوحات زيتية وعلقتها في البيت. وقبل انتقالي الى هذه المرحلة، بدأت أقراً قصصاً وروايات ودواوين شعر، خصوصاً المترجمة من لغات أخرى، كان لي صديق من أسرة غنية يساعدني في شراء هذه الكتب، ثم اكتشفت دكاناً لتأجير الكتب بأربعة فلوس يومياً لكل كتاب، فصار هذا الدكان معبدي. في هذا الوقت التقيت مصادفةً بالكاتب والمسرحي جليل القيسي، وكنا نسكن في منطقة واحدة، فسألني عن عنوان الكتاب الذي أحمله، فأخبرته بأنه «مذلون مهانون» لدوستويفسكي، فاندهش. وسألني عن الكتب التي قرأتها خلال الأشهر الاخيرة، فسردت له العناوين وأسماء المؤلفين. سألني إن كنت أكتب أيضاً. وكنت أكتب نتفاً واعتبرها قصصاً قصيرة جداً، وبعض الأشعار في صيغة مقاطع نثرية.هذه كانت بدايتي الأساسية. دعاني القيسي إلى بيته وهناك التقيت جان دمو، سركون بولص، يوسف الحيدري، فاروق مصطفى وغيرهم. وفي ما بعد، التقيت أيضاً بمؤيد الراوي، فاضل العزاوي، وأنور الغساني والأب يوسف سعيد. كنت في حوالى الثامنة عشر من عمري أو اقل، وكان ذلك في بداية ستينيات القرن الماضي.
هذه كانت حلقة «جماعة كركوك» الأدبية، إضافة الى أسماء أخرى. ويبدو أنني تعرفت إليها في مرحلتها الاخيرة، إذْ كانت بدأت في الخمسينيات. هذه الجماعة كانت يسارية وماركسية، بل كان معظمهم أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي. وهكذا انتميت أنا الآخر.
حدث انقلاب البعثيين في بداية عام 1963 وكان دموياً بشكل خاص ضد الشيوعيين، فقررت الانتقال الى إحدى قواعد الحزب في كردستان، وبقيت هناك كمقاتل حوالى سنتين، ثم عدت الى كركوك بعد انقلاب عسكري ضد سلطة البعث، لأجد أن معظم أعضاء «جماعة كركوك» كانوا في معتقلات، وتعرضوا للتعذيب والتشرد، ويتواصلون في لقاءات أدبية أسبوعية، وغالباً في بيت جليل القيسي. هنا لأول مرة، بدأت أقرأ كتاباتي. قوبلت من البعض بالتشجيع والثناء، وبالسخرية من آخرين بسبب تأثري – في الشعر – بعبد الوهاب البياتي كما قالوا. نصحني جليل القيسي بالتركيز على كتابة القصة القصيرة وعدم إهدار وقتي وطاقتي في كتابة الشعر، بينما بعد لقاءات مع سركون وجان، وخصوصاً مع الأب يوسف سعيد، اقترح هؤلاء بأن لاعلاقة لي بالقصة القصيرة وأني موهوب كشاعر.
في عام 1965 نشرت قصائد لي لأول مرة في الملحق الأدبي لجريدة «الجمهورية»، وساعدني الشاعر فاضل العزاوي في نشر بعض كتاباتي في مجلات وصحف، وكذا فعل الشاعر مؤيد الراوي. في هذه الأثناء، تم اعتقالي مع آخرين، ونهب رجال الأمن عدة دفاتر تحتوي كتاباتي وأشعاري من بيتي، ولم يعيدوها. كنت قد أنجزتُ أول ديوان شعري في تلك الدفاتر. وهكذا بدأت من جديد ونشرت كتابات قليلة في عدة مجلات وملاحق أدبية أسبوعية. لم يكن وقتي مكرساً للشعر أو لأية كتابة بسبب صعوبة حصولي على أي عمل في الصحافة الادبية. كنت أتنقل من عمل يومي الى آخر، في مخابز، في شركة الغاز في كركوك، وكعامل بناء وغيرها من الأعمال. بقيت حتى عام 1970، بشكل متقطع، على صلة بالحزب الشيوعي بعد انشقاقه. وفي النهاية وجدته لا يستحق كل هذه التضحيات بعد انحرافاته في مجالات نظرية وتنظيمية، كما أن قياداته كانت بائسة ومتخلفة. مع بداية السبعينيات، بقيت في بغداد وعملت في السكك الحديد، في إدامة القطارات بين بغداد والبصرة. وبدأت أنشر في عدد من المجلات كمجلة «الكلمة»، ومن خلالها التقيت بعدد متميز من الشعراء والكتاب. في عام 1971 بدأت كتابة مجموعتي الاولى «رهائن». نشرت قصيدتها الاولى بالعنوان نفسه في أواسط عام 1972 وفي مجلة «الكلمة» أيضاً. علي أن أذكر هنا بأن اهتمام معظم «جماعة كركوك» بي، منذ البداية، كان حاسماً في تكوين اتجاهي الشعري، من خلال نقدهم واقتراحاتهم ونشرهم أعمالاً شعرية لي، وأساساً بصداقاتهم التي أعطيها اعتباراً
كان لعبد الوهاب البياتي الدور
الرئيس في نشر مجموعتي الاولى «رهائن» من قبل «اتحاد الكتاب العرب»
كبيراً. كنتُ منعزلاً في تلك السنوات وأتفادى الوسط الثقافي بسبب طغيان البعثيين عليها. ألتقي القلة التي كنت أثق بها. وأتذكر لقائي في إحدى الأمسيات بالشاعر عبد الوهاب البياتي، إذْ بعد نشر قصيدتي «رهائن»، وكنت أحضر حلقته الادبية، ومنهم بعض المعجبين به والمثابرين على النشر في تلك المجلة، سأل البياتي، بعد قراءته القصيدة، عن شاعرها. فأشار الأستاذ حميد المطبعي، وكان صاحب المجلة ومحررها، إليّ، ففوجئ البياتي، وذكر بأنهم قدموني إليه كقارئ وفهم بأني عامل، فكيف كتبت قصيدة كهذه وما هو تاريخي الشعري؟ سردت بعض المعلومات الشخصية عني، وأشرت إلى ما نشرته في مجلات وصحف في السنوات الاخيرة. طلب مني زيارته، حيث كان في وزارة الاعلام. زرته في اليوم الثاني، وجرى لقائي معه كما يلي: ما أن جلست حتى نظر إلي طويلاً، وقال :هل تعرف بأنك شاب مجنون؟ لا أعرف، أجبته. وسألته كيف تعرف ذلك أنت؟ أعرفه، قال، من خلال قصيدتك «رهائن». أنت تعتبر الشعب العراقي رهينة في ظل السلطة الحالية. حاولت أن أُنكر ذلك وأنا مرتبك، إلا أنه كرر رأيه. وسألني إذا كنت أعتبر البعثيين أغبياء حدّ أنهم لا يفهمون قصيدة كهذه؟ كان هذا اللقاء مع الشاعر بداية صداقة رائعة، هو الذي حمل قصائدي الى مجلة «الموقف الأدبي» السورية، وإلى مجلات وصحف في سوريا ولبنان، كما أنه ساعدني في الحصول على جواز سفر لمغادرة العراق، وأظن كان له الدور الرئيس في نشر مجموعتي الاولى «رهائن» آنذاك من قبل «اتحاد الكتاب العرب».
غادرت العراق في نهاية عام 1975 ولم أعد اليه إلا مرتين، مرة مع سركون بولص في عام 1985 وفي الثانية بعد احتلال العراق من قبل الأميركان في 2003، حيث زرت كركوك، والتقيت أصدقاء قدامى كجليل القيسي وفاروق مصطفى. تجولت وحدي في بغداد، ثم قررت أن هذا ليس عراقي القديم. اتجهتُ الى الاردن ومن عمان عدت الى الفيليبين، حيث لا أزال.
عن تأثيرات البداية، كانت كتابات المتصوفة والصعاليك وبعض الشعر الجديد في العراق ولبنان. لم نتورط في الكتابة عن قضايا وطنية وقومية، كما كان الاتجاه طاغياً آنذاك. أساساً كنا ننتمي الى قوميات وثقافات أخرى، كالكرد والآشوريين والتركمان. واهتمامنا كان بالثقافة الأوربية والأميركية وحركاتها الأدبية والشعرية من خلال معرفتنا الجيدة باللغة الانكليزية وعبر الترجمة أيضاً. إلى جانب انتمائنا الى التيارات اليسارية والماركسية، ركزنا على التعبير عن أحلامنا في أساليب شخصية تميزت آنذاك ضمن «جماعة كركوك»، وأسست هذه الأساليب تياراً مستقلاً ضمن الشعر العراقي والعربي. تكفي قراءة جدية لأشعار فاضل العزاوي، سركون بولص، الأب يوسف سعيد، كتابات أنور الغساني ومؤيد الراوي، قصص ومسرحيات جليل القيسي ومحي الدين زنكنة، القصائد القليلة لكن المهمة لجان دمو، وغيرهم، لتأكيد هذا التميز والقطيعة مع ما كان سائداً حينذاك في الكتابات الادبية والشعرية.
مجموعة «رهائن» كانت مهمة بالنسبة إلي لأنها أسست مساري الشخصي في الشعر. ساعدتني في إقامة علاقات ممتازة مع شعراء ومثقفين في سوريا ولبنان، حيث بقيت لأكثر من سنة، وشجعتني على السفر والهجرة الى بلدان اخرى للعيش في شكل مختلف والاغتناء الثقافي. ما بقي من هذه المجموعة عندي، هو اتجاهها في دور المخيال في الشعر. الذاكرة والمشهد اليومي كأساس للصورة الشعرية، إذ أميل الى الصورة المادية بدل الاعتماد على المجاز وغيره. ما أعرفه الآن، بعد لقائي بعدد كبير من الشعراء في السنوات الماضية، وما أتاحه لي الانترنت والفيسبوك خصوصاً، هو أن شعري لم ينفد بعد بسبب أن بعده الموضوعي ما زال راهناً. أقصد أن الاوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية صارت أسوأ مما كانت قبل اربعين سنة، أي فترة كتابة مجموعتي الأولى. وهذه سمة أساسية في كتابات «جماعة كركوك»، وبمعنى آخر، هناك بعض الأبدية فيها، والتي تبقى حية وتستجيب للحاجة النفسية والفنية للقارئ الراهن. ومن هنا أهميتها الوثائقية.
نعم ما زلت أكتبُ وسأبقى حتى نهايتي، فهي متعتي وعلاقتي مع آخرين. واستمراري هو نوع من الوفاء لبدايتي الأولى.