بعد انتخاب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية وانتقاله الى المقر المؤقت في الرملة البيضاء، اندلعت حرب إعلامية مع العماد ميشال عون في اليرزة. صار الجنرال يعقد مؤتمرات صحافية للرد على خصومه في الجهة الثانية من لبنان. كان الإغراء بالنسبة الى صحافيي «الغربية» الانتقال الى «الشرقية» للتعرف أكثر إلى «هول الجماعة».
في ذلك الزمن، كان العميد (المتقاعد حالياً) منير عقيقي مكلفاً بالتواصل مع الاعلاميين. تولى الزميل منير النجار، من «الأنوار»، ترتيب انتقالنا، أنا من جريدة «النداء» ويونس عودة من إذاعة «صوت الشعب»، الى قصر بعبدا. كنا معنيين أكثر بإثبات حضورنا السياسي، وليس الصحافي فقط. يومها تعرّفت إلى «الجنرال» عون، وما بقي في ذاكرتي من هذه «الرحلة» استغراب فريقه إصرارنا على مخاطبته بـ»جنرال» وليس بـ»دولة الرئيس».
لاحقاً، صار التواصل شبه يومي من خلال الزميل يوسف الأندري، الى أن حصلت محاولة الاغتيال على يد الشاب فرانسوا حلال. اتصلت بالأندري للاستفسار فأجابني: هل تتصل لتتأكد من أن العملية نجحت؟
كانت تلك المرة الاولى التي أسمع فيها انتقاداً قاسياً لقرار حزبي بهذا الحجم. الراحل سهيل عبود اعتبر الخطوة ضرباً من الجنون. جورج حاوي برّر الأمر بأنه «محاولة لمنع الجيش السوري من دخول المناطق الشرقية». يومها، أقنعني سهيل بأن عون يمثل تياراً حقيقياً، وأن هذه عملية اغتيال سياسية تتم لمصلحة السوريين وليس العكس، ولا ينبغي لنا التفاخر بها.
مرّت سنوات بعد انتقال عون الى فرنسا. قصدته في دارته في باريس. سمعته يتحدث بهدوء. كان بالنسبة إليّ سراباً أن يفكر في العودة الى بيروت وهو يحمل الافكار نفسها. لكنه كان متيقناً من أن الامور ستتغير. سألني عن تقديري لتفاعل العلمانيين واليساريين مع تيار مدني هدفه إعادة الدولة الحقيقية. يومها، سمعت أولى ملاحظاته النقدية على مشروع رفيق الحريري. لكن الأهم، بالنسبة إليّ، أن صورة القادة المنفيين الذين يتمسكون بالتاريخ، من دون حراك، ليست عنده. ليس فقط لحجم متابعته تفاصيل ما يجري في لبنان، بل لحداثة معلوماته عمّا يجري في العالم. بعد عشر سنوات من اللقاء الاول في بعبدا، كنت أمام رجل آخر.
مرت سنوات قليلة، وحصل ما حصل بعد اغتيال رفيق الحريري. عشية عودته الى بيروت، وجدت نفسي أتدخل في مقابلة تلفزيونية له معتذراً عن إهانات وجّهتها اليه والى أنصاره وتياره. صار النقاش حول تياره عنصر توتر مع كثيرين، ثم تعقّدت الامور مع قيام التحالف الرباعي ضده في بيروت وجبل لبنان. حزنت لخيار المقاومة في حينه، وما زلت أذكر قوله لي: سيندم حزب الله على تحالفاته هذه.
من يومها، وأنا أشعر بأن هذا الرجل يمثل جانباً مهماً من طموحاتي في هذا البلد. صرت أشعر بوجود جهة تدعم نقداً قاسياً لطبقة الحكم التي استغلت الوجود السوري ثم انقلبت عليه ورمت بنفسها في الحضن الاميركي. وشهدت على جوانب من الاتصالات التمهيدية التي قادت الى تفاهم شباط 2006. وعندما اندلعت حرب تموز الشهيرة، لم تصبني الدهشة وأنا أسمع الجنرال يقول: الأبطال هم من يقاومون الاعتداء على لبنان.
بعد ربع قرن على لقائي الاول به، ميشال عون أكثر شباباً في عقله، وأكثر واقعية في حساباته، لكنه أكثر جذرية في خياراته التي تتيح لهذا البلد فرصة الانتقال الى حال قريبة من شيء اسمه: الدولة!