كلّما أشرقت الشمس في آذار، تعلن روزنامة عشائر العرب قرب الانتقال إلى الجرود. أسابيع قليلة، وتجدهم يجمعون أمتعتهم ومفروشاتهم ومؤونتهم استعداداً لنقل قطعان المواشي التي يملكونها إلى المناطق الجردية لتأمين غذائها. عادة لم تتغيّر على مرّ العقود. تنتقل بعض العوائل بكاملها، من أجداد وأبناء وأحفاد للإقامة الجبلية المؤقتة التي تمتدّ نحو «ثلاثة أشهر تقريباً».

الرحلة ليست سهلة، ويروي بعض أطفال العرب أنهم ينتقلون مع أجدادهم إلى الجرود سيراً على الأقدام عبر الوديان. المسير يستغرق وقتاً طويلاً، ويمتدّ في بعض الأوقات لأيام عدة. وفي حين يصف البعض الأمر بالمنهك، يلفت آخرون إلى مشاركة بعض النساء به «سيراً على الأقدام أيضاً». لكن «يؤخذ بعين الاعتبار كبار السن الذين ينتقلون بواسطة الـ«بيك أب» والسيارات.
أحمد، ابن الثلاثين من العمر، والمنتمي إلى بني عمر في الضنية يحدّثنا عن حياة «عشائر العرب»، وإن اعترف بداية بتراجع خصوصياتهم. يقول إن الكثيرين «لا يزالون يعتمدون على الرعي، وهم يتنقلون بين الساحل والجرد. في الشتاء يسكنون في جبل تربل، وفي الصيف يقصدون الجرد فوق القرنة السوداء».
وهناك، في الجبل «يتنقلون بين ثلاثة منازل، وهي مواقع تتفاوت من حيث الارتفاع وبحسب حاجة الطرش (الماشية). فيبدأ العرب بداية بتوجيه ماشيتهم لرعي المنزلة الأولى وتسريحها في البرية، ولا ينتقلون إلى المنزلة الأعلى إلا عندما ينتهي العشب والتلج في المنزلة السفلى».
لا يقدّم أحمد إجابة عن المدة الزمنية التي تستغرقها كلّ منزلة: «أوقات بيقعدوا ثلاثة شهور، وأوقات شهر». وهذا الأمر يتحدّد على ضوء كمية الماء والعشب والثلج في المكان الذي يقصدونه، وهو ينطبق أيضاً على فترة الإقامة في الجرد بشكل عام «ففي سنوات القحط تكون مدة الإقامة في الجرد قصيرة».


تراجع الرعاة

في العقدين الأخيرين تراجع اهتمام «العرب» برعي الماشية، إذ يؤكد البعض أن أهلهم لم يشجعوهم على ممارسة الرعي «لأنه عمل شاق، وأصبح ينظر إليه كنشاط غير متناسب مع المكانة الاجتماعية». وبالرغم من ذلك بقي البعض منهم محافظاً على هذه المهنة التي تشكل جزءاً من الشخصية العربية البدوية.
وسام، ابن الست عشرة سنة، ورث هذه المهنة عن والده. وهو يتنقل بين بساتين الضنية، ويسرح في الطبيعة سعياً وراء الماء والعشب والكلأ «ليس هناك مكان ثابت. كل يوم نقصد انا وغنماتي حرشاً معيناً، وفي الصيف نقصد الجرد وفي الشتاء نقصد الساحل». يتعرّض وسام لبعض المشاكل بسبب مهنته «خصوصاً مع أصحاب البساتين عندما تقترب منها الماشية». ويلفت الى أنه من بين قلة مازالوا يعملون في الرعي، أي «مَعّازة».

يتجه عدد من أبناء العشائر إلى تعليم أولادهم في المدارس
حتى أخوته «تركوا هذا العمل وراحوا يشتغلون في جمع الحديد والخردة».
لا يوجد عدد محدّد من الماشية التي يفترض بالراعي أن يهتم به. وسام مسؤول عن «سبعين رأساً، وهو عدد معقول. لكن رفيقي مثلاً يمتلك مئة وسبعين رأس ماشية». ويتحدث وسام عن التقنيات التي يجب ان يتحلى بها الراعي فإلى جانب الصبر «يجب أن يتعلم كيفية التعامل مع ماشيته، هناك كلمات معينة نردّدها لكي يمشوا أو يتوقفوا، بالإضافة إلى استعمال العصا والحجر أحياناً». ويشير إلى أن الاهتمام بالغنم يختلف من حالة الى أخرى وحسب أعمارها «مثلاً تحتاج الغنمات اللواتي أنجبن حديثاً إلى عناية خاصة وهذا أمر لا يفوتنا». ومن خلال المراقبة تستنتج أنه يستعمل في كل مرة أصوات مختلفة وعند سؤاله إذا ما كانت الأغنام تفهم فعلاً الأصوات التي يطلقها يجيب «أكيد بتفهم عليك، والله ع شوي أكثر من البشر».
يتحدث وسام عن مهنته بمحبة ويقول: «شغلتي بتريّح البال، بتسرح انت والغنمات في الطبيعة، لا حدن بيأمرك، انت سيد نفسك»، مضيفاً: «هيدي أجمل حياة، بتعملك الطيبة والحنان وحب الطبيعة».


شريان حياة الجرد

يؤكد «العرب» أنهم يلعبون دوراً أساسياً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الجرد «عندنا منازل ومقابر وبيوت». ويشبه الجرد خلال إقامة العرب فيه المسلسلات البدوية، فهو مجتمع متكامل ينبض بالحياة، وتكيّف أهله مع تحدي الطبيعة. «الحياة في الجرد قائمة على العرب والرعيان، لو ما نحنا كان الجرد ميت». ولتأكيد رسوخ عشائر العرب في جرود الضنية يستشهد أحمد بالمقابر والتُرَب «عمر مقبرتنا بالجرد أكثر من مئتي سنة، لولا بيوت الشَّعر كان عنا بيوت حجر، لكننا نعتمد عليها لأنها خفيفة وتسمح بحركة الانتقال». ويلفت إلى أن النسوة كنّ قديماً يغزلن هذه البيوت «أما اليوم تستورد جاهزة من سوريا، وتكون مصنوعة ع الماكينات».


جذور العشائر

لا يعرف اللبنانيون الكثير عن عشائر العرب، بل هم يحتفظون في ذهنهم بصورة مشوّهة عن حياة هذه العشائر. وغالباً ما يجرى وضعهم في موقع متناقض مع المدنية، أو يجرى الخلط بينهم وبين بعض الفئات المتسوّلة، من دون القيام بِأي محاولة لفهم خصوصية هذه الفئة من الناس وتراثها الخاص الذي يؤمن تماسكها وانتقال تقاليدها عبر الأجيال.
تنتشر العشائر على الأراضي اللبنانية كافة، وحالهم في منطقة شمال لبنان لا تختلف عن أقرانهم من عشائر العرب في مختلف الأماكن. ويلاحظ وجود سمات مشتركة في ما بينها حتى على صعيد التغييرات البسيطة التي بدأت تغزو حياتهم جيلاً بعد جيل، حتى بات مألوفاً أن ترى الصحون اللاقطة «الدش» معلقة على ما بقي من خيم في ظل هيمنة البيوت الاسمنتية على أماكن سكنهم.
في منطقة الضنية، يعود عشائر العرب إلى «عرب العجارفة». وهم أولاد والد واحد، محمد العجرف، لكنهم ينقسمون الى ثلاثة بطون: بني عَمر في الضنية وبني سيف العـْويّد في منطقة عَدوي وبني علي في الفوار. تجمعهم رابطة، وهم من عرب النْعيم الذين يقولون إنهم ينتسبون إلى سلالة الرسول وتعود أصولهم إلى الجزيرة العربية والبعض يقول من اليمن.
وعن تمسك العرب بالتقاليد القديمة التي نتعلّمها في الكتب المدرسية، يؤكد العارفون أن بعض ما درسناه لا يزال موجوداً، فالعشائر لا تزال تحافظ على «القهوة المرّة»، وكذلك كرم الضيافة والذبح للضيف «اللي عندو غنم بيذبح، أما الفقير فلا. أصبح الذبح لأصحاب المكانة الاجتماعية». وعن المحافظة على العادة القديمة باستقبال الضيف لمدة الاقامة ثلاثة أيام فيلفت محدّثنا إلى أنها تتأثر بالوضع المادي.

لهجة خاصة

من أهم مظاهر التغيير في أوساط «العرب» اندماجهم في مجتمعاتهم، واكتساب أبنائهم اللكنة العامية. ويلفت الشيخ ابراهيم صبرا إلى أن هناك ميلاً متصاعداً في أوساط أبناء العشائر لدخول المدارس واكتساب المعارف العلمية وهو أمر يساهم في تطوير هوية أبناء العشائر ولهجتهم.
وتقول احدى الطالبات الثانويات «لا يمكنني استعمال لهجة العرب مع رفيقاتي، لن يفهمنني أنا أتحدث مثل الكلام العادي أما لهجتنا الخاصة فأتحدثها بين أقاربي». وتضيف إن «لهجتنا مميزة وغير مألوفة وحتى نحن الشباب الصغار في كثير من الأحيان لا نفهم كلام جدتي هناك كلمات صعبة».