محمد بنميلود*عزيزي أنسي...
أريد لهذه الرسالة أن تصل إليك، من الماضي إلى المستقبل، عبر الريح، أو عبر قنينة سابحة في المحيط العظيم. أنا شاعر من الضفة الأخرى، من المغرب الأقصى البعيد، الذي ليس بعده سوى الأمواج والغرق. أطل عليك من قلعة الأوداية، على الأفق العالي للشعر. وُلدت هنا، بعد شيخوخة الشعراء، لكن، أنت تعرف أكثر مني أن لا عمر للشاعر ولا لشعره، ولا قبر له بين القبور، وتعرف أكثر أن بريق الذهب الجميل تذروه الريح أخف من تبن الحصاد الفقير...
قرأت بعض أشعارك قبل أسابيع، في القطار، وأنا عائد إلى الرباط بشوق عاشق إلى قلعته، بعدما غادرتها ليوم واحد فقط. كنت أضع الكتاب جانباً، وأحدق في الغيوم، لتعلمني فرح الزوال، وكانت قادرة على ذلك، وقادرة على كل شيء.

إنك ترى، لا شيء تغير، سوى أن الخراب تضاعف في الخارج بسرعة مهولة في سنة واحدة. خراب البلدان ويُتْم الشعراء، لكن القوارب المسائية ما زالت تتقدم كل مساء في اتجاه عرض المحيط، بالبطء والهدوء القديم نفسه، والسكينة نفسها المعتادة التي للشعر حين يصفو..
عبر نسائم هذا المحيط، جاءت نسائم كلماتك الصافية إليّ، كلآلئ من دون محارات، دخلت من نافذتي الصغيرة، وها هي اليوم -كما ترى- حبقٌ مزهر في الأصيص الجميل.
لا أعرف ما الذي تفعله هناك الآن؟ هل تكتب الشعر في عالم آخر؟ لمخلوقات أخرى؟ هل تؤسس هناك لحداثة بين الملائكة؟ لا أشك في ذلك، ولا أصدق أبداً موت الشعراء، مثلما لا أصدق موت شعاع، إذ كما تسحب الشمس شعاعها، تسحب السماوات شعراءها الأحب إليها. وفي الغد يظهرون من جديد في نبوءة جديدة. لا أصدق أبداً موت الشعراء، لكن غيابهم هو الموت. إنهم اليوم أيضاً كثيرون، الشعراء الذين من نفس النبع، من نفس العين البعيدة التي كلما رمشت تكون النظرةُ شاعراً، رغم أنها لا ترمش كل حين، ورغم أن الحراس أكثر من الشعراء، لكن الحدود تنهدم، ومهما تماسك الحراس بالأذرع لصد الماء، تسرب الشعراء مع اللآلئ والقواقع والرمال. لقد اخترقهم الشعراء رغم ذلك، رغم خسائرهم الفادحة، إذ في النهاية يكفي أن يصل واحد أو اثنان، من الأنبياء، الذين بلا معابد، وبلا أتباع، ليبلغوا رسالة المستقبل، إلى الماضي. تلك الرسالة التي يجب أن تصل، عبر الريح، أو عبر قنينة سابحة في المحيط العظيم، ولو إلى مؤمن واحد في جزيرة.
لعلك تريد الآن كتابة قصيدة جديدة أو رسالة، لعل العوالم الأخرى أرحم وأقرب إلى الإنسان من السماء. حسناً، لا أريد أن أسبق الأحداث. ها هي كأسي الثانية – كما ترى- مترعة بالرفض، وبأريج حبق الشعراء والجدّات، في صحتك كل سنة، أيها الشاعر أنسي، في هذا العالم، وفي كل العوالم...
* شاعر مغربي