رؤوف قبيسي *الكتابة عن غائب مثل أنسي الحاج، كلام عن إنسان حاضر، لا يزال ماء الحياة في عينيه.
ألا نقول في العربية الفصيحة عن عظيم بيننا، إنه ملء عين النشء؟َ
نحن إذن إزاء رجل ملء عيوننا كان. صوته صوتنا، كلامه كلامنا، نحن الذين عرفناه وعاصرناه وقرأناه، «كلمات» في «النهار» و»خواتم» في «الأخبار».

غياب الكبير ليس فناء، هو اغتراب. نوع من حضور مخفي، دائم بكل المقاييس والصور، متوهج ومشع مثل جمر أبدي، أو كالكلمة الوليمة كما عرفها ميخائيل نعيمة.
لم يمر أنسي الحاج في حياتنا مر السحاب. خمسون سنة وأكثر وهو يسكب الحرف النضير، وقبل أن يرحل إلى رقاده الأبدي، ترك كلمات لا ترقد ولا تستكين، تذكرنا به كلما قرأناها تبراً هنا وذهباً هناك.
هل يموت رجل مثل أنسي الحاج؟
يقول المؤمنون عن الذي يموت إنه انتقل إلى جوار ربه. لن أذهب إلى البعيد، إذ ليس لي من السماء ما أحتمي به ساعة الشدائد، لكني أقول، والقول ليس تطيراً، إن أنسي ما زال حياً. توقف عن الكتابة كمن يتقاعد. يكفيه أنه ارتكب القصيدة، ومارس النثر بأناقة، وكان مجلياً مثل كل الفاتحين.
حسبه أيضاً أنه فعلها في وقت كانت اللغة فيه قلنسوة وعمامة وجبّة وقفطاناً، فإذا الصبي اليافع الحالم الآتي من الجنوب يخلع عنها أردية البلادة وأصباغ الفخامة وألوان الغلاظة.
غياب الكبير ليس فناء،
هو اغتراب، نوع من حضور مخفي، دائم بكل المقاييس والصور
يداعبها برفق، ويلعب بمفرداتها كما يلعب طفل نبيه بأشيائه، فيخلق منها صوراً ومجسّمات، وخيالات من الواقع ومن خارج الواقع.
هل مات أنسي الحاج، الموت الذي لا قيامة من بعده، أم القيامة من فعل الناصري وحده، كما جاء في المأثور؟
من له أذنان فليسمع... هكذا تقول الكتب! ومن له عينان فليقرأ.
هكذا هم الشعراء الكبار، يرحلون ويبقون. ماثلون في الحضور، في العين والوجدان، فعلاً أقوى بما لا يقاس من صدى اللحن والأغنيات العذاب، وأخلد منها على مر الدهور.
لا غلوّ هنا ولا تكلّف، فالذين فتنوا بأنسي الحاج شاعراً وناثراً، سيبقون أوفياء لذكراه. الوفاء الذي لا يعرف التحسر أو الندم أو البكاء، بل الشغف الدائم بتراث الشاعر الأيقونة. وهل هناك شيء أحب إلى قلب شاعر أو أديب مبدع من قراءة الناس ما يكتب؟ هنا الشيء الوحيد الذي يبقي الفنان حياً. أظن، بل أكاد اقطع أن أنسي كان واثقاً من أنه لن يموت، ليس لأنه آمن بالغيب، واعتد بقديسين لا نعتد بهم، ولا وجود لهم بين المناطقة وأصحاب العلوم، بل لأنه كان يدرك في قرارة نفسه أن الشعر لا يفنى، وأن الشاعر العظيم لا يموت، وفي هذا نقره كلنا ونوافقه الرأي. هل مات أبو الطيب والمعري ودانتي وشكسبير وريلكه وغوته وطاغور وكاموينز؟
أكاد أسمع قارئاً ينتفض ويقول: على رسلك يا صاح، أنت تبالغ وتغلو، وتقرن أنسي الحاج إلى هؤلاء الكبار في الكتب والتاريخ والعالم. إذا اتفق ووجد هذا القارئ، فسوف أرد عليه وأقول: على رسلك أنت أيضاً. أنا لا أقرن ولا أتكلف إذا قلت إن من الناس من يرى في بعض ما كتب أنسي مسحات من جمال ليست موجودة في أشعار أولئك الكبار. وسوف أضيف قائلاً: ما أدراك أيها القارئ ما تخبئه الآتية من الأيام. كم من الشعراء والفنانين كانوا مغمورين ثم أنصفتهم الأزمان. إن شاعراً مثل ابن الرومي لم يكن الناس يعرفون عنه شيئاً قبل 150 سنة، وها اسمه اليوم على كل شفة ولسان، وفناناً مثل فيفالدي، لم يكن الناس يعرفون عن فنه شيئاً قبل سبعين عاماً، وها اسمه اليوم على كل شفة ولسان.
ومن ثم ما لي أنا وأنت أيها القارئ الكريم، وأولئك الكبار في الكتب والتاريخ ؟ حسبنا في لبنان ودنيا العرب، أن الزمن هيأ لنا شاعراً خرج من تاريخنا الحافل بالرتابة والتقليد والجمود، وحلق في الأعالي كالنسور، وزرع في جوف الغيم القاتم من الفضاء نجمة ستبقى تضيء ما بقي المكان وبقي الزمان.
كأني بأنسي، وقد ختم حياته في «الخواتم»، أراد أن يفعل ما فعل جبران في «النبي». بين لحظة الموت والولادة الجديدة، أصعد جبران مصطفاه إلى هضبة خارج «أورفليس»، وجعله يخاطب البحر ويقول: «وأنت أيها البحر الشاسع، أيتها الأم الهاجعة، فيك وحدك السلام والحرية للجدول وللنهر. سيدور هذا الجدول دورة بعد. سيهمس بعد همسة في هذه الغاب، ومن بعدها سآتيك قطرة لا تحد، إلى محيط لا يحد».
وهناك، عند الجانب الآخر من المحيط، وقف رسول بِشِعره الطويل حتى الينابيع، عشبة هوجاء لا تعرف الاستكانة. أوغل في البحر وبدأ يكتب:
«كلما أوغلت في البحر نأى الشاطىء عني
ولكي أسترجع الشاطىء في البحر أغني
كلما امتدت إلى البحر يميني
كان برق خاطف أسرع مني
كلما أوضحت ما كانت تقول الشجره
خذلتني سوسة نائمة في الثمره
هكذا نبدأ من حيث انتهينا
لا لنا شيء ولا شيء علينا»
* صحافي لبناني