زاهي وهبي *أنسي،
لا أعرفُ لماذا نثقل عليك وأنت في سكينة الأبد وطمأنينة الغياب؟ هي متعة الكتابة اليك، حيث تغدو الكلمات أكثر فتنةً وإغواءً، تراودنا عن أنفسنا ولا ضرورة لأن تشقَّ قمصاننا من دبر. فالشاعر دائماً على الحافة والشفير، تناديه الهاوية ويغويه الانزلاق، ولا يعود عارفاً تماماً أهو زليخة أم يوسفها، أم كلاهما في آن؟ وهل يصير المرء شاعراً ما لم تنصهر في منجم ابداعه معادن الأنوثة والذكورة معاً، ومن تلك المُراودة المُضنية الشاقة الشقية الشيقة، من شررها الصوّاني وجمرها اللّهاب، تولد القصائد المُحرقة (بكسر الراء).

أنسي،
أهو حدس الشاعر وظنّه الذي لا يخيب دفعاك للمغادرة قبل أن تكمل قصيدتك، وهل تكتملُ قصيدة بغير موت شاعرها؟ أَرحلتَ كي لا يمتزج حبركَ بالدماء السائلة أنهاراً تحت سيف التوحش وخناجر الغرائز القاتلة، حين هشاشة الشاعر أرقّ من استطاعة روحه على الاحتمال، وكأني به يغدو أُمّاً مُنتحبة على أضرحة الراحلين جميعاً.
لكنكَ،عشتَ حروباً واختبرت ويلات، ذقت مرارت الخسارة والفقدان، وحاولت ثأراً من سرطان خطف منك الأم باكراً (والزوجة لاحقاً) بأن سعيتَ لسرطنة اللغة والقصيدة، فكانت كلمتك رجيمة ملعونة، لكنها شهية مثل كل محرّم أو ممنوع، أشبه بوليمة مارقة لا يستطيبها حراس هيكل وأهل يقين.
ابن الشكّ أنتَ، حتى لو دفعتك الهشاشة في لحظة وداع أن تنادي مريم، ولعلك ناديت الأمَّ التي فيها لا العذراء، أو لعلك ناديت الاثنتين معاً، ففيكَ من أثر الكتاب المقدس ما فيك، وفيك من رجاء القيامة والخلاص، ولعلك عشتَ وشهدتَ وكتبتَ دائماً بين حدّين: الشكّ واليقين، المقدّس والمدّنس، تَوَثُّب الذئب ونعومة الرماد، دهاء الصياد وزقزقة العصافير، وأنتَ صياد اللحظة الفاتنة الهاربة من منابر الرطانة ومعاجم التقليد.
المارق الملعون على الورق ليس سوى كائن من حبر وكلمات
لكن ما كان لكَ أبداً أن تقول ما قاله سعدالله ونوس على فراش الرحيل: «لقد حاججَ أيوب ربَّه، أما أنا فمن أُحاجج، وليس لدي الا هذا اليقين اليتيم الموحش، من الظلام أتيت والى الظلام أعود». اذ على الرغم من كل ما فيك من جموح وجنوح وتمرد وخروج عن الطاعة، لم تنجُ البتة من نبرة خلاصية ورجاء أكيد. كلُّ غوّاص ماهر سيعثر لا محالة في قعر نصوصك على عُشبة قيامة موعودة نحو فراديس ترجوها على نجمة أخرى غير هذي الأرض التي هي جحيم الشعراء وسعيرهم المحموم.
ما عليه، ليس الآن وقت البحث والتمحيص، هي رسالة حُبّ وحنين، وكم كان لكَ من اسمك نصيب، كأن المارق الملعون على الورق ليس سوى كائن من حبر وكلمات. مجالستُكَ نزهة في حديقة أو بستان، تهوى النكتة وتجيد الضحك ولا تهاب نميمةً تجرح ولا تُدمي، تقول تلميحاً ما لا تقدر عليه أبجدية كاملة الأوصاف، والى الامتاع والمؤانسة، ثمة المُحرّض المُحفّز على الشعر والكتابة، والأخيرة يتلاقى فيها شخصك ونصك، سواء سمعك جليسك أو قرأك، الخلاصة واحدة: شحنةٌ نفّاثة تحثُّ على اجتراح قصيدة ولو من خضم العدم. ولولا نيران الابداع وجمر القصائد المكتوبة تحت ضوء الشهداء لكنا الآن حقاً في قاع العدم. فهل تعوّض القصيدة غياب شاعرها، وهل تؤنسنا الكلمات يتيمةً على موائد المجرمين؟
أنسي،
كم يلزمني من عواصف لأقول أفتقدكَ، كم يلزمني من غليان حبر ولهب مجاز. أستعين عليكَ بالورد والندى، بضوء الفجر على وَجْنة الصباح، وباللغة المقطّرة في جحيم الحروب. لا تسعفني عليكَ سوى بيروت، العاشقة الثكلى التي ساهمتَ في بزوغ أقمارها، وكسرَ بعضَك بعضُ انكسارها، وحاولتَ تضميد جراحها ولملمة شظاياها بالكلمات. الآن هنا، ثمة مَن يداوي الحمّى بجرعات من مياه القلب. ففي قاع المدينة ما ينبضُ على الرغم من خراب الأمكنة وفساد الأيام، ثمة شعرٌ ونثرٌ ومسرح ورسم وموسيقى ورقص وأغنيات صاعدة الى أعلى، ولعل الرهان معقودٌ على ما سوف يولد من مخاض دمويّ هائل لم تعرف بلادنا له نظيراً، وأنتَ الأدرى كم من ابداعات مفصلية وتحوّلات كبرى طلعت من رحم حروب وويلات، وليس لنا سوى الوقوف على ناصية الحلم والقتال وفقَ محمود درويش، متى خسرنا الحلم فقدنا معنى الحياة.
أثقلتُ عليكَ. ألا يكفيكَ ثقل صليب حملته شبه وحيد في جلجلة الوجود، أو عبء لغة جرّبتَ انزالها عن صليب الرتابة والتقليد، سرطنتَها ليولد من أحشاء قديمها جديدٌ ما، وكأنها من شدة مكرها وكيدها العظيم، ثأرت منك بأن أذاقتكَ ما أَذقتَها. ولا يقلّلن أحد من بطش حروفها أكانت طلاسم أو كلمات، أَوَلم يكن في البدء كلمةً؟ لكن مأزق الكلمة الجميل أنها لا تقوى على ذاتها، لا يمكننا القول (مثلاً) أن كلمةً تنسخ سواها، فما سُطّرَ قد سُطّرَ، وما كُتبَ قد كُتب، لا مفرَّ ولا مناص. إذاً، كلمتك باقية بكامل عافيتها وشحوبها، بملائكتها وشياطينها، بجاذبيتها وسطوة وساوسها، بورد حضورها وشوك الرحيل، لأن «شمس العودة» لا يقوى عليها ملاك موت أو سرطان غياب.
كلمةٌ مُنقذة وكلمةٌ مُهلكة، واحدة مُسرطنة وأخرى شافية. بين هذه وتلك، وُلدتَ وعشتَ وكتبتَ، أما الموت فحَدَثٌ عابرٌ، فـ»الناس نيام اذا ماتوا انتبهوا». عساك الآن في يقظة انتباهك، تنعم بحرية مُطلَقة كانعدام الوزن، بلا طقوس ولا دروس أو حتى أغنيات، تمضي خفيفاً كفكرة عابرة، أو كوَمضة عطر هَبت من عنق امرأة عابرة في خيال شاعر أو على قارعة
قصيدة.
* شاعر وإعلامي لبناني