عصام العبدالله *عزيزي أنسي،
الحمامة البيضاء التي ألّفتها بجناحين من شعر وشعر.
الحمامة البيضاء التي أطلقتها في التيه نحو الظنون، تاهت. ولما تأخرت في العودة حاملة جواب الأسئلة، سبقتها يا أنسي.
ولما وصلت إلى حيث لا تستقر الظنون استهدت عليك. سمعت رائحتك ولغتك وعادت منك إليك. سمعت دعاءك وأنت ترتل باسم «العضرا» وتنادي كأنك ترغب في الحمامة فجاءتك ووقفت على كتفك وكانت مريم العذراء تأخذك بيد وتمسك وجعك باليد الثانية. وقفت الحمامة على كتفك وراحت تكتب هديلها بمنقارها كأنه القلم المبين.

عزيزي أنسي،
أعرف أنك لا تنسى. ولكنني أذكّر كي تنفعني الذكرى.
تذكر عندما كنت في كنيستك؟ ولكنيستك شباك يطل على بيروت. تذكرُ؟ أنت على الشباك وأنا في الخارج أجلس في الهواء على الهواء. وتحدثنا قلت لك بأنني أريد الاعتراف. فقلت لي «أنا لست رجل دين» فأجبت وأنا لست مسيحياً أيضاً فأين المشكلة؟ واعترفت. اعترفت لك بأنني كنت مشغولاً بالجملة الواحدة والصرخة الواحدة والقبضة الواحدة. كنت مشغولاً بالأحزاب والعصبيات والسياسة بما هي طريق الوصول الى السلطة من أجل الناس.
قلت لي. أكيد من أجل الناس؟ فاعتذرت.
أخبرتك بأنني تأخرت عليك. قرأتك في الصفحة قبل الأخيرة في النهار الثقافي، كلمات.. كلمات.. كلمات وكنت مجتهداً إلى أن وقعت في الوهم الجميل والالتباس الجميل.
ابتعدت عنك وسمعت عن كتبك ودواوينك ولم أقرأ. كنت أقرأ كيف يجب علينا أن ندمر بلدنا، وما الذي يجب أن نقوم به ليصير الشعار قنبلة والحلم مدفعية.
قلت لي هوّن عليك، ما زال عندك متسع من الوقت وأنت الآن حرّ وبسيط. غفرت لك وأذنت لك بدخول كنيستي. «اقرأ باسم ربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم» ورتلتها كما يليق بالآيات
الكريمة.
وقرأتك بشغف المستعجل وبانت لي إشاراتك وتفتحت أمامي البلاغة العربية عندما تصير ذكاءً خالصاً. عندما تضيف الكتابة على البلاغة جغرافيا جديدة وتستكشفها وتجربها.
وصرت أحبك وأنتبه دائماً إليك حتى وأنت الواضح المبهر.
لم أكن أحبك فقط. كنت أحترمك كثيراً. كنت أقبل بأن أكون تلميذاً. كنت أعطيك مكاني عندما تحفر وليس في المكان متسع. كنت تمانع قليلاً وتخجل ويحمر وجهك الأحمر. أتذكر يا أنسي وكنت ترتبك وتقبل.
عزيزي أنسي،
هل أنت ضجر الآن مني. هل تسمعني الآن وأنا أكتب فتضجر، لن أصدق أنك كذلك. سأختصر.
في الأعشية المتمددة التي كانت تقيمها لنا الشاعرة والسيدة العظيمة هدى النعماني كانت تنعقد السهرة ونبدأ كلنا اللعب. ونكون أكثر من دزينة من الرجال والنساء.
الشراب الفاخر والأكل. آخ من الأكل كنت تقول لي. وكانت هدى النعماني من أفضل من رتب مائدة.
كريمة ونظيفة ومتقنة. جرتك مرّة نحو طبق اسمه «الأرنبية» وحاولت أن تغريك بتذوقه فلم تقبل. حاولت ولم تقبل ورفضت رفضاً قاطعاً.
يا عمي وين الأرنب. شو هالأكلة الملتبسة. وكان الشاعر شوقي بزيع والشاعر زاهي وهبة يتهامسان في الزاوية فأقول انتبه، وأهدده إذا لم تفعل ما أقول فسأطلب من الست هدى أن تضع لنا شريطاً لنسمعه من شعرها. فترجوني مش هلق بعدين. «بعد ما نروح من هون» أسألك فتضحك كأن ولداً يلعب بالكلام.
عزيزي أنسي،
إذا خطر لك أن تسألني وتقول «ما وراءكِ يا عصام» فأخبرك بأنها جملة واحدة:
كثر عدد القتلى وكثر عدد المهابيل.
* شاعر لبناني