سنة مرّت اليوم. الوقت مطحنة تأتي على كل شيء، بلا رحمة. ما يفلت منها نسمّيه روح الأشياء، رحيقَها. «ذهب الوقت» الذي كان يبحث عنه بروتون. ذلك الذهب هو ما يتركه لنا الشعراء، حين ينسحبون من عالم لم يعد لهم. حين يعودون إلى اللغة. لقد تركتَ لنا الذهب، رميتَ عنك الزوائد، كما كنت تكتب غالباً، وعدتَ إلى اللغة. هنا نبحث عنك الآن، هنا نزورك. أنت مُلْك اللغة العربيّة، أحد أنبيائها الملعونين، اشتغلت عمراً على تصفيتها وتطويعها، أبحرت عكس تيّارها، تمرّدت عليها، أعدت اختراعها وتحطيم أصنامها. كسرتَ القوالب الجماليّة، أي الأيديولوجيّة حكماً. اشتغلتَ، مثل ليو فيريه على «قتل ذكاء الكلمات القديمة». لذلك أشعر بشيء من الحرج، وأنا ألتقط المفردات لأخاطبك. «هناك كلمات رائحتها كريهة»، همستَ مرّة هنا، مستنداً إلى الجدار في عتمة هذا المكتب الضّيق. كانت تحوم من حولنا خفافيش صديقة. أحد تلك الطقوس السريّة التي لم نفهمها تماماً. أكتب لك في ذكراك الأولى. ليس الأمر بهذه السهولة. أشياء قليلة من شأنها أن تستحوذ على انتباهك، إذ تنظر إلى الأسفل، وتكتف ساعديك، كمن يتقوقع حول نفسه ليحميها.
لا بد من أن يبذل المرء جهداً كي يكون عند المستوى اللائق للقائك. كي يستعيد أناقتك الدائمة، صورك التي «تقرأها العين» بتعير الجنابي، هشاشتك التي نجحتَ في إخفائها عن الجميع، حتى اللحظة الأخيرة. كي يتحايل على التعبير، فيستأنف جدلاً قديماً. كي يعلن إعجابه واختلافه، كل ما يدين به لك، في الكتابة والتمرّد، وكل ما يفرّقه عنك على ضفاف الجرح نفسه. لا بدّ من مهارة، كي أستحضر الأسئلة العالقة نفسها، حول السلطة والخطاب المهيمن، المحافظة والتجاوز، الوعي الأقلّوي والهويّة «اللبنانيّة»، العشق والشهوة، الدين والوطن، حزب الله والحريّة.
داخل الكتابة وخارجها، أنسي الحاج فوضوي يصعب تصنيفه، وهنا غوايتك. هنا سرّك. بين غزلك بـ «العريس مهدي ياغي» (٥/ ١٠/ ٢٠١٣). وتبريرك لانعزاليّة سعيد عقل في مئويّته (٣/ ٧/ ٢٠١١). «فوضوي يميني» كان يقول جوزف عن صديقه مارون بغدادي. حين سمعتها للمرّة الأولى في باريس، تغيّرت نظرتي إلى أمور كثيرة. اليوم أستعيدها لدى الحديث عن بعض المبدعين الكبار، الأساسيين في ثقافتنا اللبنانيّة الحديثة. ريمون جبارة مثلاً، وأنت طبعاً. ذلك التمرّد على كلّ سلطة، سياسية ودينيّة، بشكل جذري ومقلق للسائد، ومحيّر لمن يريد اختزالك. الإحساس الحاد بالظلم وغياب العدالة. وفي الوقت نفسه هذا الوعي السحري للعالم، والتحالف مع السائد، مع الخطاب المحافظ. هذا الانحياز للفكر المهيمن، والتشكيك المنهجي، الساخر، «الكلبي» cynique، في إمكانيّة التجاوز و«قلب الأمور»، تحت راية التقدّم والمساواة والتغيير. حين ألمحتُ إلى شيء من هذا القبيل في رثائك قبل عام، عتب عليّ بعض الأصدقاء. كيف لا يسعهم أن يفهموا أنّها طريقتي الجدليّة في الإعجاب بك؟ إن المراهق الذي غيّرت مقدّمة «لن» مساره الشخصي، وما زال يحفظ أشعارك عن ظهر القلب، يتصادم مع خطابك السياسي… قبل أن يعود فيلتقيك داخل النص. تراها الثورة الراديكاليّة التي قمت بها داخل النص، أعفتك من همّ الخوض في وحول الواقع؟ هذا الحديث ما زلت أنتظر فرصة خوضه معك إلى الآن…
سنة كاملة مرّت. الوقت يعيننا على قياس التحولات، الصغيرة والكبيرة. شيء منك طبع هذا المكان، صار من هويّتنا النهائيّة، عنوان حاجتنا الدائمة إلى الاختلاف، إلى المراهنة على المحال. هذا الجزء منك لنا، منحتنا إيّاه بكل طيبة خاطر. نعتزّ به، ونسائله. أحياناً، في مثل هذا الوقت المسائي، ألمح طيفك العابر في الممرّ الطويل الذي كان ينتهي عند مكتب إميل، كأنّك «سراب العارف»، تواصل تلك الرحلة السيزيفيّة التي لا تستطيع، أو لا تريد، إيقافها. هل ستعرّج في طريق العودة؟ أم أن زعلاً طارئاً، انشغالاً، عفريتاً، سيحول دون إلقائك التحيّة علينا؟ لا بأس، إن لم يكن اليوم فغداً. سأبقى أنتظر.

* يصدر ملحق «كلمات» بشكل استثنائي اليوم الأربعاء، كي يتسنّى لنا مواكبة الذكرى السنويّة الأولى لرحيل أستاذنا وشاعرنا وزميلنا أنسي الحاج. موعد القراء مع ملحق Private Sector بعد غد الجمعة. على أن يعود كل من الملحقين إلى موعده الثابت الأسبوع المقبل.