دمشق | أمّا وقد تنبّأ عمر أميرلاي (1944 - 2011) بطوفان بلاده، فهذا يعزّر راهنيته بعد أربع سنوات على الرحيل. صحيح أنّ الطوفان السوري خلّف مستنقعاً كريهاً، إلا أنّ أميرلاي كان من المتحمّسين لبداية «الثورات العربية». التوقيع على بيان المثقفين المؤيدين للثورة المصرية آخر آثاره العامة. بالتأكيد، كان التسجيلي السوري الأشهر والأكثر فرادةً، لينخرط أكثر بعد منتصف آذار (مارس) 2011 لو أسعفه الوقت (غاب يوم 5 فبراير). تمكن المراهنة أيضاً على مسافة نقدية من كل شيء وكل شخص. هذه قناعة غير قابلة للمساومة في منهجه.
لم يكن ليستكين لقدسية ثورية أو تأليه نضالي، ولأعمل مبضعه النقدي في كل ما يمكن أن يشغل باله. أصلاً، اعتاد على الشعور بالرعب من الغريزة الجماعية وتدفّق الحشود. لا وجود للحقيقة المطلقة. الظنّ فضيلة وليس إثماً. إذاً، لا مفرّ من زعزعة اليقين وخلخلة المكرّس. هذه وسيلة صارمة لغاية التغيير السياسي والاجتماعي والفكري. هو «اللص» الذي يفضّل الدخول من النافذة، لتفادي الباب الذي يعبره الجميع. اليوم، يبدو أميرلاي نابضاً أكثر من أي وقت مضى. تحوّلات مسيرته الحافلة وشهاداته الحيّة، تكتب مانيفستو صارخاً عن العسف والعطب والانهيارات المريعة في هذه المنطقة. تفكّك اللعنات المخيّمة على الشرق، كوابل مطر حامضي لا ينقطع. في الفني، يحضر سؤال حول تواصل الجيل السينمائي الجديد مع إرث الكبار.
عدسة متسللة، متربّصة،
تهوى الألم الإنساني وتوثيق الشقاء والقهر
اطّلاع القليلين لا يزيل الهلع من جهل الغالبية. كيف يمكن التعامل مع «سينمائي» سوري لم يسمع بـ «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974)؟ التسجيلي الآسر الذي أنجزه أميرلاي وفق تصوّر مشترك مع سعد الله ونوس. محزن هذا الفقر في التأسيس على ما بناه الرجل. في المقابل، تأثيره مقروء في تجارب أسماء مثل حازم الحموي، وميار الرومي، ومحمد علي الأتاسي وزياد كلثوم.
قريباً من مقام الشيخ محيي الدين بن عربي في دمشق، ولد عمر. «عاهدتُ نفسي، مذ صرتُ مخرجاً، أن أنذر له ذبيحتين على روحه الطاهرة كلما رزقتُ فيلماً». طفولته المسترخية في حيّ الشعلان، أتاحت له الكثير من الوقت لمراقبة الناس ودراسة طباعهم. التلصص من النافذة حفر في جمجمته، ليتسلل إلى كادره الأخير في «طوفان في بلاد البعث» (2003)، من خلال تشكيل نافذة ومئذنة. في منتصف الستينيات، طار إلى باريس، ليتلقّى تعليمه في «المعهد العالي للدراسات السينمائية» IDHEC. هزيمة 1967 والثورة الطلابية 1968، حدثان جللان اقتحما عالمه، وشكّلا قناعاته إلى الأبد. أدرك عمر الشاب أنّ التفاعل الخلّاق مع الشارع هو الصلب الحقيقي للمشروع الفني، مقرّاً أنّ الحال المزرية لهذه المنطقة تثقل كاهل الجميع. هكذا، حسم خياره التسجيلي الذي لم يتغيّر يوماً. عاد إلى الشام، وجرّب التعاطي الإيجابي مع التجربة البعثية من خلال تشجيع بناء سد الفرات. «محاولة عن سد الفرات» (1970) هو «الجريمة» الفنيّة التي سيحاكم نفسه عليها بعد 33 عاماً في «الطوفان». من «الماشي» في هذا الشريط، رجوعاً إلى «المويلح» في «الحياة اليومية في قرية سورية» (المؤسسة العامة للسينما)، مروراً بـ «صدد» في «الدجاج» (1977 ـ التلفزيون العربي السوري)، نقّب أميرلاي في الريف السوري كنموذج أصيل عن البلد بأسره (ألم ندفع ثمن تهميش الريف في ما بعد؟). وثائق بصرية مغرقة في الواقعية والالتحام مع النفس والوحل والأسفلت وكومبيوترات المدارس القابعة في صناديق مغلقة. نرى أناساً مشلوحين، منسلخين عن السيرورة التاريخية والحياتية. تلاحقهم عدسة أصيلة، متسللة، متربّصة، تهوى الألم الإنساني وتوثيق الشقاء والقهر. كيف فعلها عمر بإنتاج عام؟ حسناً، لقد لجأ إلى الاحتيال على الجهات العامة لتصوير ما يريد. في نظر عمر، هذه ليست معضلة أخلاقية بقدر ما هي إحالة على سؤال: «لماذا يضطرّ السينمائي إلى الاحتيال أصلاً؟». في «طوفان في بلاد البعث» (2003)، شنّ الهجوم الأشرس على النظام البعثي. سجّل نبوءةً لم تتأخّر كثيراً في التحقق الكابوسي. بطريقة ما، تواءمت إشكاليته وشراسته في المواقف مع هدوئه المهيب وصوته الرخيم ووسامته المحببة. حتى خصومه يتحدّثون بكثير من الاحترام عن صلابته حتى النهاية. واصل العمل على مشروع تلو الآخر، رغم المنع الذي لازم معظم أفلامه. هو صاحب أكبر فيلموغرافيا ممنوعة في السينما السورية، وربما العربية. عروضها اقتصرت على الأماكن الخاصة والمراكز الثقافية الأجنبية، فيما وجدت بعض الأشرطة طريقها إلى الفضائيات. منذ أيام، استعاد «منتدى البناء الثقافي» في دمشق شريطيه «وهنالك أشياء كثيرة كان يُمكن أن يتحدّث عنها المرء» (1997) و«طبق السردين» (1997). في 1981، تمّ إغلاق «النادي السينمائي» الذي أنشأه مع مجموعة من السينمائيين والمثقفين اليساريين عام 1974. كانت هذه المجموعة نجحت في إقامة مؤتمر تحضيري للسينمائيين السوريين عام 1976. آنذاك، شارك أميرلاي في لجنة صوغ مشروع «المجلس الوطني للسينما» و«الصندوق الوطني للسينما»، اللذين كانا من توصيات مؤتمر لم يتكرر. بعدها، غادر أميرلاي مجدداً. عمله الاحترافي في الإنتاجات الفرنسية، وسّع دائرة اهتماماته. خرج إلى المنطقة العربية برمّتها ليمشي وسط حقول ألغام سياسية واجتماعية. في «مصائب قوم» (1981)، قارب الحرب الأهلية اللبنانية من خلال شخصية سائق وحفّار قبور، اتضح لاحقاً أنّه عميل إسرائيلي. هذا الانطلاق من الخاص إلى العام، ومن المجاز البسيط إلى القضية الشائكة، بقي من مهاراته التي لم تخذله لحظةً. حدسه عالي الاستشعار في الالتقاط والمضي قدماً في مسار نقدي لا يهادن. كذلك، قدرته على التقاط نبض شخوصه ودفعها إلى البوح، كما نساء «الحب الموءود» (1983) منهنّ النجمة المصرية نادية الجندي. في التسعينيات، انطلق مشروع سجالي آخر في مقاربة غير تقليدية لشخصيات عامة: «إلى جناب السيّدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو» (1990) عن رئيسة الوزراء الباكستانية الشهيرة، و«في يوم من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشال سورا...» (1996) عن الباحث الفرنسي المعروف الذي اغتيل في بيروت، والأكثر إثارةً للجدل «الرجل ذو النعل الذهبي» (1999) عن رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. شريط يلامس العلاقة التاريخية الحرجة بين المثقف والسلطة.
بذكاء، ذهب أميرلاي إلى غير المتوقع، متفادياً التنميط ومحترماً «عقداً أخلاقياً وفروسياً» جمعه بالحريري. لم يكن صدامياً بالدفق المعتاد، إلا أنّه فتح الباب على عالم شائك. هذا لم يغيّر شيئاً من كرهه للسلطة بكافة تجلياتها. محلياً، أخذ المشروع بعداً آخر، اشترك فيه زميلاه محمد ملص وأسامة محمد. رأينا «نور وظلال» (1994) عن الرائد السينمائي السوري نزيه الشهبندر، و«المدرِّس» (1995) عن التشكيلي السوري الأشهر فاتح المدرِّس، و«وهنالك أشياء كثيرة كان يُمكن أن يتحدّث عنها المرء» عن صديقه سعد الله ونوس في أيامه الأخيرة.
على الأرض، عمل أميرلاي على تحقيق فضاءات بديلة وموازية للعمل السينمائي، الضرورة الملحّة في «السينما السورية» اليوم. صحيح أنّ علاقته بالسلطة لم تكن على ما يُرام خصوصاً بعد «الطوفان»، لكنّها لم تكن جامدة تماماً. هذا ذكاء السينمائي الذي كان ينجح دائماً في خلق هامش لحركته. هكذا، سعى إلى إحياء النادي السينمائي في التسعينيات، واضعاً في ذهنه ضرورة توسيع نشاطه إلى مختلف المحافظات السورية. أيضاً، عمل على إنشاء معهد للسينما مع بعض السينمائيين منهم أسامة محمد وهيثم حقي. أسّس «المعهد العربي للفيلم» في عمان، ودرّب العديد من السينمائيين الشباب. يُضاف إلى ذلك مساهمته الرئيسة في انطلاق «مهرجان أيام سينما الواقع» Dox Box عام 2008. «إغراء» عنوان آخر مشاريع أميرلاي الذي كان يحضّر له مع المنتج عروة النيربية عن الممثلة السورية التي اشتهرت بجرأتها. كان في جعبته أيضاً تسجيلي عن سيرة عائلته انحداراً من جدّه العثماني.
في ذكرى رحيله، تحقق «الطوفان» دماءً. صار «الدجاج» مذبوحاً «حلال»، و«طبق السردين» مغمّساً بالأشلاء. «سينما الأندلس» القابعة عند الشريط الحدودي مع العدو، باتت شاهدةً على عنف داخلي. نوم سعد الله ونوس لم يعد يفلح في درء الإحباط، فيما سينما الوحشة تقطر أرواحاً قربنا. لنستحضر العبارات «الثورية» الأخيرة من «الحياة اليومية في قرية سورية»: «علينا جميعاً أن ننخرط في النضال من أجل خلاصنا المشترك. ما من أيد نظيفة، ما من أبرياء، ما من متفرجين. إننا جميعاً نغمّس أيدينا في وحل أرضنا، وكل متفرّج هو جبان أو خائن...».