الحرب بيننا وبين اسرائيل قادمة، هذا ما لا شكّ فيه؛ ومن يعرف قواعد المواجهة والتفكير الاسرائيلي كان ينتظر الحرب بعد انسحاب عام 2000، فاسرائيل ــــ كما بنت نفسها وعلاقتها بمن حولها ومفهومها عن الردع ــــ لا تحتمل أن يحصل انتصار عربيّ عليها بلا ردّ يلغيه. وللسبب نفسه، ننتظر المواجهة ايضاً منذ عام 2006، والطرفان يتحضران لها.
الا أن الحرب لن تندلع اليوم، واسرائيل ستفكّر ألف مرّة قبل أن ترتكب أي ردّ؛ على عكس الحال في عقودٍ مضت، حين كانت عمليّة في الجنوب تُقابل بغاراتٍ في عمق لبنان تقتل العشرات، وحين كان الجيش الاسرائيلي يشنّ الحملات على البلد بسببٍ وبغير سبب.
يوجد فارقٌ كبير بين الخطاب الاعلامي حول المقاومة وبين شروطها الفعلية. جزءٌ كبير من كلام الاعلام (عالمي وعربي) ما هو الا دعاية اسرائيلية؛ والكثير من المعلقين والسياسيين اللبنانيين قد سجنوا أنفسهم ضمن «المعادلات» التي كرّسها الاعلام: ردّ وردّ مضاد، قواعد الاشتباك، القرار 1701، الخ...
في الحقيقة، لا توجد قواعد ولا قوانين الّا تلك التي تفرضها القوّة وطبيعة المعركة؛ وهي معركة دائرة، مستمرة، حدودها حدود فلسطين، ولن تنتهي الا مع الهزيمة النهائية للصهيونية والاحتلال. هذه هي العقلية التي تحرّك المقاومة وتحكم تخطيطها وعملها، وهو ما سبّب، تاريخياً، الكثير من سوء الفهم مع الذين يراقبون المقاومة من «الخارج» (بمن فيهم مسؤولون كبار في السلطة اللبنانية)، متخيلين انها ستقاتل وفق «القواعد» التي يألفونها، بينما هي تنظر الى ما هو أبعد.
انتهى اليوم عصر «حروب ما قبل الانتخابات» التي اعتاد قادة اسرائيل على شنّها في أيام خلت. مراكمة القوة ومسار المقاومة في السنوات الماضية أدّيا الى تغيير جذري في الحسابات الاسرائيلية. في السابق، حين كان قائد اسرائيلي يفكّر في احتمال حرب على لبنان، كانت الكلفة الأقصى المحتملة على بلده تقتصر على قصف مستوطنات حدودية أو تهجير بعض قرى ومدن الشمال. امّا اليوم، فإنّ المخططين الاسرائيليين يفهمون أنه، مع الطلقات الأولى للحرب، ستودّع اسرائيل – مباشرة – منصّات انتاج الغاز التي تبنيها منذ سنوات في عمق المتوسّط، وضمن مدى الصواريخ البحرية للمقاومة.
هذا لا يعني، فقط، خسارة مليارات الدولارات التي صُرفت على هذه المشاريع (ولن يخاطر أحد بإعادة بنائها في المستقبل)، بل هو يعني، ايضاً، تدمير كل خطط اسرائيل الطاقوية للسنوات المقبلة، ومعها حسابات الإكتفاء الذاتي.
هذا مجرّد مثال، واسرائيل تعجّ بالكثير من الأهداف المشابهة: من مصانع لشركات أجنبية ثمنها بالمليارات الى بنى تحتية لا يمكن للاقتصاد الاسرائيلي أن يعمل في غيابها، وهي، حين صارت تحت مرمى صواريخ المقاومة، غيّرت كلّ النظرة الاسرائيلية تجاه حربٍ مع لبنان.
لهذه الأسباب يبدو الخطاب السياسي في واد، وفعل المقاومة في وادٍ آخر؛ هذا حتى لا نتكلّم عن العرب الذين يجعلون المواجهة مع اسرائيل مضغةً في جدالاتهم السياسية وعداواتهم ونكاياتهم، كأن الحرب هي تسجيل نقاط (وكأننا ننتظر أمثال فيصل القاسم، والبلاط الذي اكتراه، حتى ينظّر لنا في شؤون الصراع مع العدو، أو الديمقراطية وحقوق الانسان، أو أي شيء آخر).
على المقلب الآخر، هناك رجالٌ خبروا الحرب وفهموا عدوّهم جيداً؛ يعرفون كيف يردعونه وكيف يوجعونه، وهم يؤسسون، كل بضع سنوات، لقواعد اشتباك جديدة. هم يعرفون أن الحرب قادمة، ولكن ليس اليوم.