في السبعينيات من القرن المنصرم، بدا أن قصيدة النثر، تطرق أبواب المشهد الشعري السوري بقوة، على يد كوكبة من الأسماء اللامعة مثل نزيه أبو عفش، وبندر عبد الحميد، ومنذر مصري، ورياض الصالح الحسين، ودعد حداد، ومرام المصري، وآخرين. كان عادل محمود (1946) يلملم أوجاع منع ومصادرة مجموعته القصصية الأولى «القبائل».هكذا، التحق بهذه الموجة متأخراً في «قمصان زرقاء للجثث الفاخرة» (1979)، ليضيفه محمد جمال باروت إلى كتابه المرجعي «الشعر يكتب اسمه» (1981) بوصفه أحد شعراء القصيدة الشفوية. وستحتل قصيدته «عمي إيفان» صورة الغلاف. حمل هؤلاء أعباء الموجة الثانية ببسالة، بعدما حرث محمد الماغوط الأرض الوعرة لهذه القصيدة بمعجمٍ مختلف.

اليوم يعود صاحب «مسودات عن العالم» إلى بستانه الشعري في مختارات تحت عنوان «أنا بريء كسراب» (دار التكوين- دمشق) مكتفياً بقصائد من مجموعاته الأربع الأخيرة «استعارة مكان»، و»حزن معصوم عن الخطأ»، و»انتبهْ إلى ربما»، و»الليل أفضل أنواع الإنسان».
يبرر الشاعر أسباب تخليه عن تجاربه الأولى بأن لكل شاعر مختاراته، وتالياً عليه أن يزيح جانباً كل ما هو فائض عن فضاء التجربة في مرحلة نضجها، رافضاً فكرة الأعمال الكاملة التي تقع في باب تقديس الذات وتجاهل ارتباكات البدايات، أكثر من انتسابها إلى الشعر الصافي.
في هذه المختارات لن نجد صخباً، أو هتافاً، أو فحولة طللية. يذهب عادل محمود جرياً على مزاجه في صناعة المجاز، إلى الظّل بقصد إعلاء شأن أرواح الكائنات المهملة وتمجيد هشاشتها، ومنحها غلافاً من الألفة والحميمية والرحابة، فهو شاعر برّي في المقام الأول، لطالما وجد في عشبة مهملة تحت ثقل صخرة عزاءً روحياً. لذلك حين يفحص تحوّلات البشر اليوم، فإنه يقع على ملاذه الآمن في الأزقة الخلفية، والمنعطفات، والجبال البعيدة، نائياً بنفسه عن العشب المداس.
اكتشافه العطب العمومي في بلاد ترزح تحت وطأة الاحتضار، نلمسه بوضوح في يومياته المتأخرة التي كتبها في ظل الجحيم السوري «عشتُ في هذه المدينة مائة عام و..يوم/ قضيت نصف قرن مربيّاً لماعز الأمل/ وقضيت نصف قرنٍ آخر- وما زلت على رأس عملي- في مهنة أحبّها: سقاية السراب» يقول.
هذا الخذلان المدوّي، ينطوي على ألم واغتراب وفجيعة، كأن كل ما كان يبتغيه تكشّف عن قلاعٍ رملية، وسراب وأوهام. وإذا بحقله الشعري يرتطم بمفردات لم تكن مألوفة لديه مثل «أفاريز الخراب، شرفة دمّرها القصف، حصة من المتفجّرات». ما أن يطوي دفاتر الحرب حتى يعود إلى ملعبه القديم، مرمّماً كسوره الشخصية بمشهديات أخرى، تتكئ على السرد أولاً، في تفسير معنى الألم والعزلة والمنفى، وانكسارات الحب، و»كيس الخسائر»، أو ما يمكن أن نسميه «نصوص الحكمة». بالنسبة لشاعر مشّاء مثله، خبر تجارب حياتية مختلفة، في تجوالٍ طويل بين مدنٍ مختلفة، فإنّ روح التأمل تأتي من موقع الافتتان وليس من جهة اليقين.

شاعر مشّاء خبر تجارب مختلفة في تجواله بين المدن
الافتتان بالمنسيات، ومناطق البياض، والحليب الأول، وتالياً، ترتيب أولويات الجمال على مهل بنفض الغبار عن كل ما يعيق الفتنة، في «الغرف والممرّات والمصاطب التي شكّلت أرواحنا». هناك أيضاً تلك النتوءات الخاطفة التي تحيل على اكتمال أنواع الندم والفقدان واليأس، في ما يشبه الاعترافات الذاتية بقصد تشذيب التجربة في ما علق بها من آثام الزمن السعيد، قبل اندحاره نهائياً. كأن مديح جماليات ما هو آفل، هو نقطة التوازن بين الغرق والنجاة: «أنا ماء أسكنُ خارج حنفيات الحروب»، و»هذا المكان مغلق لإصلاح الزمن»، و»كغزالٍ يفلّي قرنيه، ويحكُّ العزلة بالأحجار».
اللافت في نصوص صاحب «ضفتاه من حجر» أنها تخضع لنظرة عقلانية صارمة في تأثيث مسلكها البلاغي، لتنحاز أخيراً للفكرة، لا للمجاز، وفقاً لمتطلبات الحكمة التي نادراً ما تنجو منها هذه النصوص. حكمة الناي في نواحه الطويل عند تخوم البراري، والرائحة السريّة للنباتات، وبراءة التراب، وتالياً، نحن إزاء مغامرة شاعر ريفي يستنفر موجودات الطبيعة، في مدينة لا تشبهه، أو أنها لم تعد تشبهه لفرط احتضار معناها القديم «انجُ بنفسك/ اهربْ من هذه البلاد/ أبحرْ في المحيطات/ اذهب إلى شمال النجاة، وجنوب أوهام الغرباء». لا نعلم إن كان عادل محمود قد أغلق مدوّنته الشعرية، بعد إنجازه هذه المختارات كحصيلة نهائية لهذه التجربة الثرية، ليتجه إلى كتابة الرواية، المنفى الاختياري لمعظم شعراء الأمس. فقد أصدر بالتوازي مع هذه المختارات روايته الثانية «شكر للندم» (دار التكوين). وكان قد أصدر منذ سنوات روايته الأولى «إلى الأبد ويوم»، فيما ينهمك اليوم بكتابة رواية ثالثة، استجابةً لإغواء السرد. هو يرى أن الرواية «حياكة مخبولة وعبثية... للهاوية، وكميناً لاصطياد الذكريات وترويض الوحش في داخلنا». ربما علينا أن نردّد معه أخيراً، مرثيته الموجعة: «ما من أحد على وجه الأرض/ يعرف حزن شاعر يتدرّب يومياً على.. قبره».