القاهرة | للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، خلت يوميات جريدة «الأخبار» المصرية من المادة التي كان يكتبها الروائي المصري البارز جمال الغيطاني (1945 ــ 2015). صاحب «الزيني بركات» شيِّع أمس من «مسجد السيدة نفيسة»، ووري الثرى في مقابر العائلة على طريق الأوتوستراد في القاهرة.
وكان قد تعرّض في 15 آب (أغسطس) لأزمة صحية مفاجئة أدخلته غيبوبة شبه كاملة في «مستشفى الجلاء العسكري» في القاهرة استمرت إلى أن وافته المنية أمس. وسواء اتفقت أو اختلفت معه، فإنّ الرجل الذي لم يتوقف قلمه عن خوض المعارك، يظلّ إحدى علامات الكتابة الروائية في العالم العربي خلال السنوات الخمسين الماضية بشهادة كبار النقاد الذين رافقوا تجربته منذ بداياتها.
تقدم سيرته الذاتية مثالاً بارزاً عن معنى «العصامية»، لقدرة المثقف على بناء اسمه وتحقيق ذاته ابداعياً رغم قسوة ظروف النشأة. في أحد حواراته مع كاتب هذه السطور، راح يتذكر صورة الحارة التي خرج منها، معتبراً أن ما تحقق له أقرب إلى الإعجاز. ولد في قرية جهينة، أحد مراكز محافظة سوهاج في صعيد مصر لأسرة بسيطة. ثم جاء إلى القاهرة مع عائلته وعاش طفولته في درب الطبلاوي في منطقة الجمالية.

هي المنطقة نفسها التي نشأ فيها نجيب محفوظ. هناك، أمضى الغيطاني سنوات شبابه الأولى وتلقى تعليمه الابتدائي في «مدرسة عبد الرحمن كتخدا»، وأكمله في مدرسة الجمالية الابتدائية. في عام 1959، أنهى دراسته الإعدادية في «مدرسة محمد علي الإعدادية»، وكتب نصه السردي الأول ثم التحق بـ «مدرسة الفنون والصنائع» في العباسية حيث تعلم الرسم على السجاد. وفي عام 1963، استطاع العمل كرسام في «المؤسسة المصرية العامة للتعاون الإنتاجي» حتى عام 1965. في تلك السنوات، بدأ يتردّد على «مكتبات الوراقين» قرب الجامع الأزهر وبدأ شغفه بكتب التراث. وفقاً لما كان يرويه، فقد عرف خلال تلك السنوات طريقه إلى مبنى دار الكتب القديمة في باب الخلق على بعد خطوات من بيت عائلته. قضى هناك الساعات الطوال ينسخ مئات الصفحات من الكتب التي حالت قدراته المالية دون اقتنائها، وبدأ شغفه المبكر بالكاتب نجيب محفوظ الذي كان «مثالاً» ينبغي الاقتداء به، الى جانب الروائيين العظام من «بناة العالم» كما سماهم ستيفان زفايغ وهم تولستوي ودويستوفسكي وبالزاك. وبفضل الصداقة التي ربطته بالكاتب أحمد الخميسي، تعرّف إلى أسرة الكاتب الاشتراكي عبد الرحمن الخميسي، وبدأ ارتياد صالون مفيد الشوباشي. وفي الصالونين، تعمّقت صلته بكتاب جيله من الشباب، فاعتُقل في تشرين الأول (أكتوبر) 1966 على خلفية انتمائه لتنظيم «يساري» ضم معه العديد من الكتاب الشباب الذين صاروا نجوماً بعد سنوات ومنهم عبد الرحمن الأبنودي، وسيد حجاب، وابراهيم فتحي، وصلاح عيسى، وصبري حافظ، قبل أن يُطلق سراحه في آذار (مارس) 1967، بفضل تدخل الكاتب الفرنسي الشهير جان بول سارتر. وكان الأخير قد اشترط الإفراج عن هؤلاء الكتاب قبل زيارته الشهيرة إلى القاهرة. وعقب خروجه من المعتقل، عمل الغيطاني سكرتيراً لـ «الجمعية التعاونية المصرية لصناع وفناني خان الخليلي» حتى عام 1969. يومها، تدخل الكاتب محمود أمين العالم كي يعمل الغيطاني صحافياً في «أخبار اليوم» بعد النجاح الذي حققته روايته الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» (1969). خلال عمله مراسلاً حربياً خلال سنوات حرب الاستنزاف التي أعقبت النكسة، برز اسمه في القصص الصحافية التي كان يكتبها وشكلت لاحقاً نواة لمجموعات قصصية رسخ فيها لحضور «أدب الحرب» كملمح بارز في موجة كتاب الستينات التي اجتاحت الأدب المصري قبل أن يصبح أبرز ممثلي الطليعة الأدبية فيه عقب نشر روايته «الزيني بركات» (1974). هنا، عالج فكرة تمكن الأجهزة الأمنية ورسوخ البنى الاستبدادية للسلطة خلال العصر المملوكي. كشفت الرواية عن طموح كبير في التعاطي مع نص تاريخي راسخ، والحوار معه وهو كتاب المؤرخ ابن اياس، فضلاً عن محاكاته بلغة لا تغاير النسيج السردي التراثي. كما كشفت عن رغبة في ابتكار شكل جديد للرواية العربية وهو ما سماه «بلوغ الخصوصية الابداعية» على أمل تجاوز النموذج الذي رسخه نجيب محفوظ. وكان الغيطاني على صلة وثيقة به منذ أن ارتبط بندوته الأسبوعية اوائل الستينات وحتى رحيله عام 2006. في هذا النص ذائع الصيت، ناور الغيطاني السلطة الناصرية وأشار عبر قناع التاريخ إلى فساد أجهزتها الأمنية ومسؤوليتها عن الهزيمة التي أطاحت بالتجربة.
وشأن أغلب مثقفي جيله، ناهض الغيطاني نظام الرئيس السادات ورفض بوضوح سياساته سواء داخلياً عبر انتقاد تجربة الانفتاح الاقتصادي وخارجياً في توجهها لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي والصلح مع اسرائيل. انضم إلى جبهة الدفاع عن الثقافة القومية التي فضحت محاولات التطبيع مع اسرائيل، وظل من أبرز دعاة مقاومة العدوان الاسرائيلي. برزت في نصوصه، خصوصاً «الرفاعي» و«رسالة البصائر في المصائر» النماذج المقاومة سواء تلك التي دعت لتحرير الأرض أو تلك التي كشفت عن تردي الواقع المصري في الحقبة الساداتية التي دفعته لنشر أغلب أعماله خارج مصر، لا سيما في بيروت وبغداد. الأخيرتان كانتا حاضنتين لموهبته الأدبية البازغة التي تجلت في رائعته الضخمة «التجليات». كشفت «التجليات» عن مراجعة حميمة لتجربة الولع بالنموذج الناصري عبر التماهي الفريد الذي وضعه بين نموذج الأب في الواقع، والزعيم عبد الناصر في التجربة بخلاف النظرة المتشككة في وعود السادات.

بفضل التعمق في قراءة التراث، اكتشف مساحة الانفتاح في أنماط السرد العربي

وكانت قضية صاحب «الزويل» الأولى على صعيد الطموح الابداعي تجاوز الأطر التقليدية التي رُسِّخت استجابةً لطرق قص واردة من الغرب، إذ كان راغباً في كسر هذا النموذج. بفضل التعمق في قراءة التراث، اكتشف مساحة الانفتاح الموجودة في أنماط السرد العربي، لكنه لم يملك القدرة على كسر هذه «التابوات» بجرأة، لكن مع «الزيني بركات» بدأ تجاوز مسألة الخوف من الإطار وواصل تتبع صوته الخاص. ومع «التجليات»، بلغ ذروة الثقة في الشكل الذي ابتكره، مما مكّنه من كتابة «دفاتر التدوين» من دون أن يضع أي اعتبار لمسألة الشكل. اعتمدت «دفاتر التدوين» في أغلبها على تدوير تفاصيل الحياة اليومية التي اغتنت بالنماذج السردية بفضل انخراطه في المطبخ الصحافي. وفي عام 1974، انتقل للعمل في قسم التحقيقات الصحافية. وبعد 11 عاماً أي في 1985 تمت ترقيته ليصبح رئيساً للقسم الأدبي في «أخبار اليوم» الى أن أسّس جريدة «أخبار الأدب» عام 1993، حيث شغل منصب رئيس التحرير حتى تقاعده قبل خمس سنوات. تجربة فريدة كونها أول صحيفة أسبوعية عربية تكرس للأدب ليس فقط على الصعيد المصري، بل إنّها شكّلت جسراً ناجحاً لربط التجارب الابداعية عربياً وعالمياً، ومثلت مدرسة لتخريج اغلب كوادر الصحافة الأدبية في مصر. لكنها رغم ذلك تسببت له في العديد من المعارك مع وزير الثقافة المصري السابق فاروق حسني الذي واجه حملات غير مسبوقة استهدفت سياساته الثقافية. اتهمه الغيطاني أكثر من مرة بإدخال مثقفي مصر إلى «الحظيرة الثقافية». كما اتهم من عملوا معه من المثقفين بـ «التخلي» عن الدور النقدي للمثقف. استمرت تلك المعارك حتى تصالح صاحب «التجليات» مع حسني قبل عام من سقوط نظام مبارك عام 2011 في مفاجأة أثارت العديد من التساؤلات عن الدوافع التي قادت إلى صلح من هذا النوع المثير. من ناحية، تسببت انحيازات «أخبار الأدب» وخياراتها في مواقف عدائية اتخذها بعض الكتاب من الغيطاني شخصياً إلى درجة شعوره بأنّه «عوقب بسبب هذه التجربة». حتى إنّ فوزه بجائزة الدولة التقديرية (2007) تأخر لسنوات عدة. كما تم تجاهل العديد من أعماله الابداعية من قبل بعض النقاد المكرسين. غير أن تلك المعارك لم تحرم الغيطاني من فرص التكريس على الصعيدين العربي والعالمي. فاز بجائزة سلطان بن علي العويس (1997)، وجائزة الشيخ زايد للكتاب (2009) وعالمياً حظي بالعديد من الأوسمة الفرنسية أبرزها وسام فارس (1987).
وإذا كانت أعماله الأولى أبرزت شغفاً بالغاً بالتاريخ ورغبة في استكشاف أشكال سردية من التراث، فإنّه حرص في أعماله التي تلت البدايات على العناية بالعمارة المصرية وتقديمها في العديد من المؤلفات بمختلف صور التقديم بما في ذلك الصحافة التلفزيونية المصورة. وفي أعماله التي تلت «متون الاهرام» و«سفر البنيان» ومجموعة كتب «دفاتر التدوين»، سعى لابراز انشغاله البالغ بالزمن وتأملاته، كما برزت النزعة الصوفية في «التجليات» وفي الوقت عينه كشفت عن تعمق معرفته في فن المنمنمات حيث تحولت عملية الكتابة إلى عملية «تحبيك» تقوم على الاشتغال على وحدات نصية وثيقة الصلة بالعمل على «الزخارف» كأنما هي سعي للتجريد والعودة لما بدأ به ولكن بوسائط أخرى.
سياسياً، انحاز الغيطاني لـ «ثورة 25 يناير»، إلا أنّه لم يخف دعمه الواضح للمجلس العسكري خلال فترة الحكم الانتقالي. كما لم يخف رفضه لتجربة حكم محمد مرسي الرئيس الاخواني الذي تمت الاطاحه به في ما سمي بـ «ثورة 30 يونيو». كان الغيطاني أبرز داعميها كما من أبرز الداعمين للرئيس عبد الفتاح السيسي ضمن سياق دفاعه الدائم عن الجيش المصري انطلاقاً من خبرته كمحرر عسكري. ورغم دخوله طرفاً في العديد من المعارك، الا أنّ كل المثقفين المصريين عبروا عن حزنهم البالغ لرحيل «حارس الذاكرة المصرية».