يماثل خروج الطائفة الإيزيدية من جبل سنجار في العراق العام الماضي بعد سيطرة التنظيم الإرهابي «داعش» على المنطقة سفر الخروج التوراتي. صدم مشهد تهجير الإيزيديين من قراهم وبلداتهم إثر سيطرة فرق الموت الداعشية الرأي العام العربي والعالمي. يُعدّ هذا النزف التاريخي الذي تعرضت له هذه الأقلية الدينية أكبر كارثة إنسانية شهدها هذا القرن. وعلى الرغم من استعادة مناطق واسعة من محيط جبل سنجار، ما زال مركز القضاء خاضعاً لسيطرة «تنظيم الدولة الإسلامية». تشير الإحصاءات غير الرسمية إلى أن عدد النازحين الإيزيديين يبلغ 75 % من مجموع الطائفة وتعيش النسبة الباقية تحت قبضة «داعش» أو في مناطق خارج العراق.
شكّل السبي واغتصاب النساء خلال الحروب وسيلة لقهر الجماعات. لاحظ عالم النفس اللبناني الراحل عدنان حب الله أنّ جسد المرأة «يعادل مفهوم الشرف، فأي انتهاك للرحم، يشكل تعدّياً على حرمة الجماعة، ويتلطخ اسمها بالعار، لأنّ هذا المكان من الجسد يخضع لشرعية ولطقوس ولعقد ديني واجتماعي يخول الدخول إليه، فهو مصدر الحياة ولكن بشرط واحد أن يحمل اسم الأب».
في «الموت الأسود: مآسي نساء الإيزيدية في قبضة داعش» (مطبعة خاني – دهوك ـــ الطبعة الأولى 2015) يوثق الإعلامي العراقي خضر دوملي شهادات الإيزيديات اللواتي تمكن من الهروب من داعش. كل الأسماء المذكورة أسماء مستعارة. وقد أجريت المقابلات مع الناجيات الهاربات من تلعفر أو الموصل أو مدينة الرقة السورية.
يحمل العنوان الرئيس للكتاب بُعداً رمزياً وتاريخياً. كان الرواة الدنماركيون والسويديون أول من استخدم مصطلح «الموت الأسود» في إشارة إلى وباء الطاعون الذي أودى بحياة جزء كبير من سكان أوروبا خلال القرن الرابع عشر. علماً أنه خلال العصور الوسطى لم يستعمل هذا التعريف بل «الموت العظيم» أو «الطاعون العظيم».
جاء خطف الإيزيديات من سنجار من قبل داعش بعد غزوة 3 آب (أغسطس) 2014 ضمن خطة ممهنجة، تضمنت مراحل عدة، كما يؤكد دوملي. أشارت التقديرات الأولية إلى أن أكثر من 5000 امرأة وطفل إيزيدي اختطفهم «داعش» وفقاً لمعلومات وشهادات جمعها نشطاء وناشطات من المخيمات وأماكن وجود النازحين وعدد آخر من الجهات والمراكز والمؤسسات والشخصيات. نفذ حكم الإعدام في أكثر من 400 رجل بحسب شهود عيان نجوا من مجزرة قرية كوجو جنوب مدينة سنجار، ونُقلت النساء والأطفال الى مواقع مختلفة بغية تشتيتهم وتفتيت العوائل.
تبرز الشهادات التي أدلت بها الفتيات الناجيات حجم المآسي التي تعرضن لها. عدد من النساء وضعن في منازل مهجورة برفقة أطفالهن.

أقدمت فتيات مختطفات على الانتحار من خلال تناول سم الفئران

تقول سيدة كانت على اتصال بالكاتب إن «داعش أراد دائماً أن يشعرنا بالمهانة والضعف، كان الرجال عندما يأتون للتفتيش أو التدقيق في وجودنا وخصوصاً بعض الرجال التلعفريين يهينون الإيزيدية (...) ويسبون أولياءنا حتى نستسلم، وكثيراً ما كانوا يضربون الرجال أو يهاجمون الفتيات الجميلات صغيرات السن (...) شتموا الإيزيدية جميعاً وقالوا ليأت طاووس ملك (وهو في الديانة الإيزيدية أعلى الألوهيين الملائكة) لنجدتكم».
يعيدنا حديث الفتيات الناجيات عن تجربتهن الأليمة إلى أهوال القصص المرعبة للعنف الجنسي في الحروب التي عرفتها البشرية في القرن العشرين سواء خلال الحرب العالمية الثانية أو خلال الصراع الدامي بين البوسنة والهرسك (1992-1995). شكل الاعتداء الجنسي على النساء قاعدة للترهيب والتخويف في مراحل الصراعات والنزاعات المسلحة. في العصر الحديث، سجلت مجزرة «نانجينغ» في الصين (1937) اغتصاب آلاف النساء على يد الجيش الإمبراطوري الياباني. وقد أدرجت اليونسكو هذه المجزرة أخيراً في سجل الذاكرة العالمية.
تحت عنوان «عودة زمن العبيد»، يلفت الكاتب إلى تحويل عوائل بكاملها عبيداً في مزارع ومعامل لرجالات «داعش» ضمن المناطق التي سيطروا عليها. سعى التنظيم الإرهابي من خلال سبي النساء وخطف الأطفال إلى تحقيق أمرين: توزيع المختطفات على أمرائه وتجنيد الأطفال الأيزيديين ليصبحوا مقاتلين. تبرز شهادات الأطفال تلقيهم تدريبات على السلاح في مراكز ومدارس تسمى «الفتوى الإسلامية».
جرى نقل النساء إلى المدن والبلدات السورية مثل الرقة والشدادي وتل حميس وسد تشرين، وأصبحن جواري وسبايا لقادة «داعش» الأجانب من جنسيات مختلفة. تتحدث سيدة كانت والدة لثلاثة أطفال نجت من مدينة سد تشرين عن «رجالات داعش» الذين «لم يرأفوا بحالنا واللواتي كن يرفضن، كن تلقين تعذيباً وحشياً أو سجناً انفرادياً أو تعرضن للاعتداء من أكثر من شخص دفعة واحدة (...) شاهدت كيف كانوا يبيعون الفتاة بسعر 50 دولاراً أو 100 دولار لقاء أسبوع تقضيه في بيوت يستخدمها قادة داعش». وفي شهادة أخرى، تقول ليلى (الاسم هنا مستعار): «كل يوم كنت أسمع عن تعرض فتيات ونساء إلى الضرب أو البيع بين المقاتلين في مدينة الرقة، أو تزويجهن بالقوة لرجال داعش خصوصاً المقاتلين العرب».
أقدم عدد من الفتيات الإيزيديات المختطفات على الانتحار من خلال تناول سم الفئران. وقد كشفت الشهادات عن تسمم 15 فتاة نقلن مباشرة إلى مستشفى في عاج، وبقين هناك لأكثر من يومين في الأسبوع الأخير من شهر آب. وبعدها تم تفريقهن إلى أكثر من مجموعة. محاولات الانتحار تكررت عند أخريات بعد معاناة كبيرة رافقها تعذيب وإهانة واغتصاب جماعي. في تقرير نشرته صحيفة «إكسبرس» البريطانية في شهر نيسان (أبريل) الماضي، لفتت إلى انتحار 60 فتاة إيزيدية شهرياً في المناطق العراقية التي يسيطر عليها «داعش» إثر الاعتداء الجنسي عليهن.
تأتي أهمية «الموت الأسود: مآسي نساء الإيزيدية في قبضة داعش» من أنه يوثق لأبشع الجرائم المرتكبة بحق الإيزيديات. يعتبر خطوة متواضعة تحتاج لاستكمال عبر تأسيس أرشيف رسمي يؤرخ لمأساة الإيزيدية أقدم الديانات في العالم.