يجلس ستيفان راسكاتوف على الحافّة يحمل علم التيار الوطني الحر بيد، والمنشفة التي مسح بها حُبيبات العرق عن جبينه باليد الأخرى. من بلدة بيت مري المتنيّة وصل الى طريق قصر بعبدا، للمشاركة في التظاهرة التي دعا إليها التيار الوطني الحر أمس، ملقياً مسؤوليّة الاعتناء بوالده المقعَد ووالدته العجوز على زوجته. «هذا اليوم لي وهو ثورتي على نفسي»، يقول صاحب البطاقة العسكرية رقم 8920937.روايات ستيفان مليئة بالعاطفة، فيقشعر بدنه وهو يتذكر رفاق السلاح. عيناه تلمعان تارة وهو يستعيد صورته على الجبهة يوم كان عمره 21 عاماً، وتدمعان تارةً أخرى حين يُخبر كيف نجا من طلقة عسكري سوري: «جابوني من تمّ عزرائيل». الرجل اللّبناني ــ الروسي، كما يُعرّف عن نفسه، ترك منزله في الـ 1989 مُلتحقاً بالجبهة.

تطوع في «أنصار الجيش» وخدم مع اللواء الثامن. هو سُرّح من الجيش في 12 تشرين الأول 1989، إلا أن اشتداد المعارك منعه من تسليم سلاحه، «وقّع على تسريحي الجنرال (ميشال عون)، وعلى البرقية (الرئيس السابق) إميل لحود». للمرّة الثانية يُشارك في تظاهرة، «من أجل ذكرى الشهداء الذين سقطوا في 13 تشرين».
ستيفان عيّنة من عشرات الآلاف العونيين، الذين لبّوا يوم أمس نداء العماد ميشال عون لهم بالعودة الى الساحة، علّها تُقربهم أكثر من حلمهم، فيرجع قائدهم الى «قصر الشعب... والرجعة ببدلة رسميّة».
السابعة صباحاً، تمركز المنظمون والأمنيون العونيون في نقاطهم، من أجل تسهيل وصول المناصرين وإرشادهم الى مواقف السيارات. أما وصول «شعب عون»، فبدأ عند الساعة الثامنة.
والدةٌ تنهر ابنها لأنه دفع ثمن قبعة برتقاليّة خمسة آلاف ليرة، ونساء وفد بلدة رومية (المتن الشمالي) يصرخن: «نحن من رومية الأبية، رومية المغاوير، رومية (العميد) شامل روكز». أما مختار القطرانة (جزين) السابق ريمون مخول، فيحمل العلم البرتقالي واقفاً أمام عدسة مصور «الصحيفة الوحيدة التي أقرأها. صورني وأنا رافع إشارة التيار».
«يقبرني اللّه يللّي خلقو»، تقول ابنة زحلة مشيرة طعمة، مُشددة على مخارج حروفها. طوت بين يديها عدد صحيفة يعود إلى تاريخ 13 تشرين الأول 1990، «أحتفظ بها منذ 25 سنة وأقبّلها يومياً. أتيت لأنني أعبد الجنرال».

ذكرى «13 تشرين» هي ملك العسكر الذي حارب في تلك الفترة


ارتاحت الأعلام على أكتاف الكبار والصغار وهم يتقدمون الى المنصة، رفعوا علامات «الصحّ» مرددين كلمات أناشيدهم التي ارتفعت في فضاء بعبدا. بين الأغنية الحزبيّة والأخرى، وصلات أوبرالية. «التظاهرات العونية تتميز بالرقيّ»، يُعلق النائب عباس هاشم. ربّما لهذا السبب، لم يرق عناصر الانضباط مظهر عدد من الشبان الذين وصلوا من وادي خالد. طلبوا التأكد من هوياتهم وقاموا بتفتيشهم. ورغم التأكد من «لبنانية» الشبان، بقيت نظرات رجال الأمن تلاحقهم، محاولين الاستراق الى حديثهم مع إحدى الصحافيات. يُعلق واحد منهم: «لأن عكار بالنسبة لهم مزبلة يُقللون من احترامنا. هم وجّهوا الدعوة لنا، لماذا هذا التصرف؟ لا يهمّ، سنُكمل طريقنا لأننا جئنا من أجل عيون عون».
الذين تعبوا من المسير، تفيأوا تحت الأشجار بجانب الطريق، أو تسلقوا الروابي الصغيرة. من هناك، أمكن رؤية عناق الذين ارتدوا البذلات العسكرية بوضوح أكبر. توالى وصول الوفود الشعبيّة، ها هو نائب رئيس التيار للشؤون السياسية الوزير السابق نقولا الصحناوي يصل متقدماً وفداً من الأشرفية. للمرّة الأولى، يأتي من دون «توأم روحه» السابق القيادي زياد عبس، ما يؤكد «الطلاق» السياسي بين «الديو» الأشهر عونياً. لحظات قبل أن «يظهر» عبس في الساحة: «نحن الدائرة الأولى وهم (الصحناوي) الثانية»، يُعقب ممازحاً. يستعيد ذكريات «13 تشرين» والغبطة تملأه لأن «بعبدا والهواء هنا غير». الكلام نفسه يُردده: «اليوم أيضاً نرى وجوهاً جديدة. الذكرى هي ملك العسكر الذي حارب في تلك الفترة». أكرم صغبيني هو أحدهم: «أنا عسكري متقاعد، هذا هو القهر بعينه». تجاعيد جبينه توحي بالكثير من الذكريات: «أتذكر كم بكيت يوم طلب منا عون قبل هجوم الجيش السوري الالتزام بالجيش». يعود الى الساحة «من أجل كرامتي وحتى أتمكن من اختيار رئيسي بغضّ النظر عن هويته».
خصص المنظمون منطقة تمركزت فيها غرفة عمليات «التيار» الإعلامية، فكان يدخلها ويخرج منها المسؤولون السياسيون. باستثناء نائبَي كسروان جيلبيرت زوين ونعمة اللّه أبي نصر اللذين لم يغادرا مكانهما سوى لالتقاط بعض الصور. في تلك النقطة، كان الوزير الياس بوصعب الذي يُشبه الحاضر بالماضي: «تهميش ومنع للتمثيل الحقيقي». يرفض ربط تحرك البارحة برفض ترقية روكز، فـ«أول بند سنطالب به في أول جلسة للحكومة هو الالتزام بالقانون وإقرار التعيينات الأمنية».
مسؤول الماكينة الانتخابية في «التيار» منصور فاضل يُحذر أيضاً من الربط بين روكز والتيار «فهو رمز من رموز الجيش». يقول إن «التيار يضفي على الذكرى مشروعه السياسي».
منطقة أخرى خُصصت لعائلات الشهداء، وهي كانت قريبة من منصة عون الرسمية. وصل إليها باسيل بعد جهد واضطرار مرافقيه إلى «التدفيش» لتأمين ممرّ له وسط الجموع. ربما لم ينتبه «معاليه» لذلك. فهو يُقبّل تلك المسنّة، يقف إلى جانب أحدهم ليتصور معه ويمدّ يده مُبتسماً لصبية أرادت مصافحته، قبل أن يعتلي المنصة واضعاً إكليلاً أمام أسماء الشهداء على وقع نشيد الموت. كان لافتاً هذه المرّة الاهتمام بالشهداء، فذيعت أسماؤهم من قبل أهاليهم والعميد بول مطر.
من وحي «حركات» فريق 14 آذار الاحتفاليّة، بدأ الاحتفال الذي تأخر قرابة الساعة، برفع الأذان وإنشاد التراتيل الدينية. شهادات «13 تشرين» ألقاها كلّ من كوليت زعرب، زوجة الشهيد جورج زعرب، والعميدين المتقاعدين فؤاد الأشقر وميشال عواد.
ثلاث كلمات كانت كافية في بثّ الحماسة بين المتظاهرين. «يا شعب لبنان»، قالها عون فرفرفت الأعلام على إيقاع واحد. حين تعطلت الشاشة العملاقة، علا الصراخ: «صورة، صورة... بدنا نتصبّح بوجّك». بعد ساعات من الانتظار، غادر كثر قبل انتهاء كلمة عون. لم يسمعوه حين وعدهم باللقاء مجدداً «في ساحات النضال من أجل لبنان أفضل».