التحقت لتوّي بهذه العمارة القديمة والبعيدة نسبيّاً عن صخب المدينة، حيث شقّتي الجديدة المكتراة، التي تقع مباشرة أسفل شقّة أخرى يسكنها منذ سنوات بلا عدّ رجل وحيد وطاعن في السن. لم يخبرني أيّ ﺃحد بهذا الأمر. أمر العجوز، ﺃقصد. بل أجزت لنفسي ترف تصوّره فحسب. إذ كلّما حططت الرحال في شقّة جديدة، ﺃفترض بما يشبه اليقين الصلب بأنّ الشقّة التي تعلوني لا بدّ من أن تكون مسكونة منذ سنوات بلا عدّ من لدن رجل وحيد وطاعن في السن. هو الرجل الوحيد ذاته والطاعن في السن دائماً، مهما تعددت الشقق أو اختلفت.
طبعاً، وجب عليّ أن ﺃفرغ المحتويات القليلة للحقيبة الجلديّة الصغيرة والوحيدة التي جلبتها معي، وهي بالمناسبة حياتي النحيلة برمّتها التي نقلتها على الدوام في هذه الحقيبة وأقصى ما يمكنني أن أتحمّل حيازته من ثقل هذا العالم حتى أصير تماماً خارجه، ثم قضيت بقية النهار في أعمال تنظيف الجدران الكالحة... نفض السرير والدولاب العتيقين المغبرين، وكذا تنقية بعض أواني الطبخ المشروخة التي تفضّل المُكتري السابق بتركها جميعها هنا، أو على الأرجح تخلّى عنها كون علاقته الوجدانية بها انقطعت إلى الأبد بأمواس الهجر. ولا أخفيكم بأنني بدّدت وقتاً أكثر مما ينبغي في ﺇنجاز هذه الأعمال، ربّما لأنني كنت في غضون ذلك ﺃجنح، فيما يشبه محاولة يائسة لاحتجاز الأبديّة في لحظة واحدة، في سهو التأمل علّني أسجّل مرور بصمة الذكرى على الآثار والأشياء الشخصيّة الغاربة التي خلّفتها الحيوات التي مرقت قبلي من هذا المكان. كيف أفرغت دون رجعة من عمق أصحابها الحقيقيين، وانتقلت بشكل طارئ نحو ملكية أخرى صورية؟ كيف كانت ولم تعد قادرة على أن تكون؟ وكيف سقطت من الزمن... من عقال زمنها الماضي، وتتأهب للسقوط في الزمن... في ﺃسر زمني الحالي؟
حتّى حدود هذه اللحظة، يمكن القول بأنّ كل شيء سار تقريباً على ما يرام. لكن عند حلول المساء، وبمجرد ما أطاح التعب رﺃسي على الوسادة، تناهت إلى سمعي من سقف الغرفة سلسلة من النقرات الخفيفة كما لو أنّ ﺃحدهم يواظب على طرق عقب أداة ما أو ما شابهها بالأرضية. فقلت مع نفسي بيقين من يبصر مناجاته بأمّ عينيه، ﺇنّه من دون ريب عجوز الشقّة العلوية من على أريكته يشاهد التلفاز في هذه الأثناء نافثاً دخان سيجارته، ويتلهّى بتوقيع نقرات خفيفة من عكازه الخشبيّ السميك على الأرضية.
في الواقع، نقرات العكاز كانت واهنة ومسموعة بالكاد، لكن تواصلها بلا هوادة ودون فاصلة صمت واحدة، حال بيني وبين النوم لمدة ليست باليسيرة. وفيما بعد، عندما سقطت في غفلة من السهاد بين براثن النعاس لم تتلاش النقرات حتّى في الحلم.
كلّ نقرة كانت تفتح في ﺃرض الحلم قبراً. في تلك اللّيلة الأولى والكظيمة بالمعنى الدراميّ للكلمة، قبور كثيرة زحفت على الروح، وذهبت إلى ﺃبعد ما يمكن في الكابوس.
أمّا في الليالي الموالية، وفي الآونة نفسها التي كنت ﺃستعد فيها لأخلد إلى النوم، كانت النقرات تنطلق. وسرعان ما يشتدّ ساعدها في ﺃرض الحلم عندما يبلغ بي الأرق مداه، حتّى صارت مقبرة مترامية الأطراف لا تني عن الاستشراء بطموح شنيع وبكلّ عدوانيّة في شتّى الاتجاهات. ولمّا حاولت في بعض الليالي أن أحيط هذه المقبرة بسياج عازل كما يحيط السوار بالمعصم، أصبحت النقرات شديدة اللهجة ودمّرت السياج، ثمّ واصلت زحفها بوقاحة مبتلعة في طريقها كل شيء. الأدهى من ذلك، عندما جرّبت في ليال أخرى كإقطاعي صغير أن ﺃنتقل إلى أراض جديدة وفارغة في الحلم، تحوّلت بدورها إلى مقبرة شاسعة، واستأنفت بلا رحمة وبانتظام آلة رهيبة التهامها لكل شبر.
ولربّما بسبب فقدان أدنى بارقة للانفراد بالسكون بمنأى عن هذا التعذيب المنهجيّ للنقر، حرّضني الفضول أحياناً على الدخول بنفسي إلى أراضي الحلم، والسير متوغلاً لمسافات طويلة في قلب هذه المقبرة الموحشة التي امتدّت حتى طاولت ذلك الأفق الضائع واللانهائي الذي يصح أن يقال إنّ بعده سوف ينتهي العالم، لكنني كنت ﺃرجع أدراجي لفرط جزعي من أن تباغتني اليقظة وسط هذه المغامرة الاستكشافية غير المحمودة على الأقدام، وأظل محبوساً هناك إلى الأبد إذا ما ضاعت مني طريق العودة.
عِيْلَ صبري وأوشكت النقرات على تخريب أعصابي بالكامل، كما أضحى من العبث في كل حلم بناء ﺃسيجة إضافية... الانتقال إلى أراض فارغة... أو السير على الأقدام لاكتشاف إلى أين يمكن أن يمتد كل هذا السديم، فقرّ عزمي عندئذ بإيعاز من الويسكي، وهو بئس الناصحين كما لا يخفى عن نباهتكم، أن أواجه العجوز مباشرة لأطلب منه الكفّ نهائياً عن النقر بعكازه. وهكذا، ارتقيت ذات ليلة درج العمارة إلى الطبقة الموالية. ضغطت بعصبية على الجرس، وانتظرت، ثم طرقت الباب بقوة عندما لم أتلقّ رداً. ولما أعدت الكرّة بقوة ﺃكبر وعصبية بلغت مداها الأقصى، انفتح الباب المقابل، لتخبرني الجارة وعلى محياها أمارات الانزعاج والدهشة بأنّ الشقّة مهجورة منذ أن قضى العجوز نحبه قبل سنين عديدة. ﺃُسقط في يدي، فتقهقرت إلى شقتي ضائعاً مثل عقرب وحيد في ساعة، أتيت على ما تبقّى من زجاجة الويسكي، ثم أنخْتُ بجسدي المحطّم على الفراش، عندها عادت النقرات مجدداً لتكدح بخفوت في السقف. لقد دبّر لك ﺃحدهم مقلباً، قلت لنفسي. هذا كمين وتلك النقرات اللئيمة ما هي سوى صوت مفبرك لدفعك للنزول إلى حفرة الجنون، قالت لي نفسي. فوجدتني محمولاً على أجنحة الغضب إلى الطبقة الموالية مرة ثانية. عالجت قفل الشقّة، ثم تسلّلت إلى الداخل بعينين مفتوحتين على سعتهما في الظلام. تقدّمت إلى غرفة النوم الموصدة، فتحت بابها بوجل، ومن خلال حزمة نور كانت تخترق ستارة النافذة، استطعت أن أتبيّن أريكة فارغة من النوع الهزّاز، ما زالت تتأرجح مثل ذيل مقطوع لسحلية عملاقة، ﺃسند على أحد جانبيها عكاز خشبيّ سميك، وبمحاذاتها طاولة خفيضة عليها منفضة بها سيجارة ما زالت قيد الاشتعال إلى حدود المنتصف. تقدّمت واقتعدت الأريكة بثقة من أَلِف الجلوس عليها لسنوات بلا عدّ ونشأت بينه وبين قطيفتها عشرة التماس، من دون أن تفارق عيناي صورة شخصيّة مكبّرة داخل إطار علقت على الجدار. الصورة من دون شك كانت للعجوز، غير أنّ الوجه الذي كانت تحمله كان يشبهني تماماً لما سأصير في أرذل العمر. كنت في حقيقة الأمر وجهاً لوجه مع صورتي التي ستكون يوماً. مع ذكرى صورتي التي سبقت أيامي. مع الصورة التي سأتخذها في اليوم الأول بعد موتي. هذا اليوم بالذات حتّى وﺇن تشكّل من أيام بلا حصر ملؤها حلم واحد لا يريم. دنوت من النافذة. أزحت الستارة، فأبصرت لحظتها على امتداد النظر مقبرة شاسعة تنتشر على نفس الأرض التي كانت تحتلّ حلمي، وعلى طولها كان ثمّة حصان ﺃبيض بلا سرج ولا لجام يعدو... ويعدو... ويعدو... دون أن يلوي على شيء. ولما أمعنت التحديق، أبصرتُني ممتطياً ذات الحصان الأبيض، وكنت أعدو... وأعدو... وأعدو... ومن خلفي يد ما أغلقت الستارة.
عند الفجر، جمعتُ حقيبتي الجلديّة الصغيرة، ثم غادرت من دون رجعة!
* كاتب وقاصّ من المغرب